Sunday 5 November 2017

عرض لكتاب المسرح والعالم الرقمي تأليف أنطونيو بيتزو - ترجمة أماني فوزي حبشي





من بين الإصدارات المسرحية المهمة التي يصدرها مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي سنويا هذا الكتاب ( المسرح والعالم الرقمي ..الممثلون والمشهد والجمهور ) لمؤلفه ( انطونيو بيتزو ) حيث ان المسرح وقيمه الجمالية – وبحسب كلمة رئيس المهرجان د. فوزي فهمي – \' لم ينج من طوفان هذه المستجدات , لاسيما ان مستجدات التكنولوجيا بثورتها التي لاتنتهي قد ولدت خطوطا واضحة من الصراعات رهانا على تحولات جذرية في بنية المسرح انطلاقا من انه ليس نسقا مغلقا او ثابتا من الادراكات .ولانه احد القوى الفاعلة في المجتمع التي طالتها هذه المستجدات فلابد له من ان يتحرر من اية قبضات مسبقة وعليه ان ينجز خطوات تحولاته متخليا عن عزلته التي تحجب عنه الاستفادة من تلك المستجدات \' .      
ضم الكتاب اربعة فصول وجاء الفصل الاول بعنوان ( تلوث المسرح ) كشف فيه المؤلف عن سعة انتشار الانترنت وتوظيف هذه التقنية بإيجاد علاقة متداخلة بين العرض المسرحي والأجهزة الجديدة للتكنولوجيا الرقمية , وما استخدامه لكلمة تلوث الا ماتعنيه هذه العدوى الرقمية التي اصابت المسرح شانه شان الفنون والاداب الاخرى التي اصابتها العدوى الرقمية نفسها لتحقق جراء عدواها – الايجابية – هذه قفزات تطورية جاورت – ان لم نقل تقدمت – محطات مابعد الحداثة على صعيد الشعر التفاعلي و الرواية الرقمية عالميا وعربيا . اما المسرح الرقمي موضوع كتاب انطونيو بيتزو لم يبتعد كثيرا – برأينا - عن محاولات عربية اقترحها كاتب السطور كنظرية مسرحية جديدة باسم ( نظرية المسرح الرقمي ) في اذار 2005م  ولاهمية الطروحات التنظيرية في هذا المجال وفي كتاب بيتزو, دعتنا الضرورة الى استعراض ومناقشة وتحليل بعض ماجاء من هذه الاطروحات المهمة خاصة المتعلقة بتاريخية المسرح الرقمي عالميا والتجارب الريادية وتطورها عبر مفاهيم نظرية واعمال – عروض مسرحية رقمية قدمها عدد من المخرجين ممن وظفوا التكنولوجية الرقمية في عروضهم المسرحية مضفين اجواءا جديدة وتقنيات وانفعالات لم يألفها جمهور المسرح سابقا .
بعد ان يستعرض مؤلف الكتاب اثر الرقمية على ثقافتنا المعاصرة يخصص جانبا حيويا من اثر الدراسات النقدية السيموطيقية على ثقافة الصورة بشكل عام والصورة المسرحية بشكل خاص وتحديدا عندما يهيمن العالم الافتراضي على جماليتها المفترضة اصلا ليكون التحكم كله بعد ذلك تقنيا وبآليات الرقمية نفسها للنص الصوري المترابط فيقول : \' ان النص المتعدد الروابط ,والوسيط المتعدد الروابط , والوسيط المتعدد التفاعلي تستمر اذن في عملية القرن في تحويل القراءة الى شيء مصطنع .فاذا كان فعل القراءة يعني الاختيار والحفاظ على الصيغ الثابتة وبناء شبكة من الاحالات الداخلية للنص والربط بمعلومات اخرى ,والتكامل بين الكلمات والصور للذاكرة الشخصية الخاصة في عملية اعادة البناء المستمرة ,عندئذ يمكن بالفعل التاكيد ان الادوات الخاصة بالنص المتعدد الروابط تشكل نوعا من التحويل الى الموضوعية والتغريب والتحول الافتراضي لعمليات القراءة . \'
واول اشارت بيتزو هي ماثبته حول العنوان التي اقترحته ( برنيدا لوريل ) ( computer as theatre الحاسوب كمسرح ) وذلك منذ عام 1993م لعملها الشهير حيث تفترض ان العلاقات المؤسسة بالفعل من قبل التقديم المسرحي بين المشهد والجمهور يمكن ان تفيد لتحليل العلاقة بيننا وبين ما يحدث فوق شاشة الحاسوب , موضحة الحالة التفاعلية الناتجة عن استخدامنا للحاسوب ومعتمدة على مرجعية ثقافية نفسية وهندسية معلوماتية والجمع بينهما لمحاولة تبني – ربما – ما اورده شكسبير : ما الدنيا الا مسرح كبير ( كما يحلو لك الفصل الثاني المشهد السادس ) لتصل الى نتيجة الى ان كل عالم الحاسوب يتجسد كخشبة مسرح ضخمة لأدائنا .
وتتحول المسميات الاصطلاحية عند بيتزو فنراه يبدأ بمسرح الحاسوب لينتقل الى ( الممثل الرقمي ) و ( العرض الافتراضي ) و( الفضاء الالكتروني المسرحي ) و ( العرض المسرحي الرقمي ) مرورا ب ( مسرح الانترنت ) و ( عروض اون لاين ) ليصل الى ( التجريب المسرحي الرقمي ) و ( العرض الكوني ) وهكذا ,نعزو اسباب ذلك الى تنوع مراجع المؤلف مابين التنظيرية والتطبيقية فضلا عن اعتماده لمصادر فنية واخرى علمية هندسية هذا بالاضافة الى عدم ثبات المصطلح عالميا وعربيا وترجرجه من منطقة لاخرى ومناخ ثقافي لآخر تبعا لفاعلية ثقافة الحاسوب والانترنت بمستويات متباينة جدا وباحصائيات مستمرة تلك التي تكشف عن الانتشار الصاعد لهذه الثقافة الرقمية في مكان ما وتخلفها النازل في مكان اخر .
في صدد الاشارة الى مدى التوظيف الرقمي مسرحيا وانعكاس مفاهيم التجريب المسرحي في ثمانينات القرن الماضي يذكر بيتزو ما نصه : \'... في مختلف التجريب للثمانينات شهدت الساحة الفنية نوعا من السحر التكنولوجي على خشبة المسرح , وبالفعل منذ ذلك الوقت ظهر بوضوح ان افضل النتائج يمكن الحصول عليها عندما تنجح التكنولوجيا في ان تتحول مجرد عمليات ترقيعية الى عمليات تجميلية .كانت الاسطورة التكنولوجية في ديالكتيكية حول الفرض اللامحدود لمذاق ما بعد الحداثة , كان نظاما لأعادة الاستحواذ على الممارسة المسرحية بعيدا عن الدفعات المدمرة للفترة السابقة , ولكن رافضا في الوقت ذاته العودة الى الكلاشيه التقليدي . كانت اعراض تأمل حول معنى المسرح الذي لم يعد في الامكان ان يصبح سياسيا ولم يكن يجد وسائل اخرى سوى التأثر بما كان تقليديا بعيدا عن المسرح ( الاضاءة , الليزر , الفيديو , الاسقاطات ,الخ \' لقد اكد المؤلف على ان  توضع بعض التجارب اذا في مسار البحث الخاص على امثلة تم تطويرها بالفعل من الطليعية الفنية للقرن العشرين والتي كانت تعيد النظر الى وظيفة الممثل على خشبة المسرح وامكانية استبدال حضوره الجسدي بعنصر ديناميكي من نوع اخر ( دمية الية , مؤثرات في المشهد , اضاءة  ) في هذه الحالات كان الامر يتعلق بتطوير وجود الممثل الانسان بأدخال نوع من الذات الاخرى الاليكترونية ... في حالات كثيرة كان الامر يتعلق بصفة عامة باعادة ربط العرض المسرحي بالخصائص الاساسية للخبرة المعاصرة . ليصل الى نتيجة مفادها ان   فمحاولات التأثير بين العرض المسرحي والتكنولوجيات الرقمية في السنوات العشر الاخيرة وبعيدا عن تعريف نوع مسرحي جديد تعد جزءا من تحد مركب واسع المدى , تحد جمالي للألفية الجديدة , حيث تتقدم التكنولوجيا ليس كوسيلة جديدة للأتصال ولكن كأداة لتحديث الوسائط المتعددة الموجودة بالفعل على ضوء المكان الجديد للحدث الفني .
في الفصل الثاني ( المشهد المسرحي والوسائط الرقمية الجديدة ) يناقش المؤلف الواقع الافتراضي بوصفه بيئة ابداعية فيشير الى القرار الذي اتخذه في بداية التسعينات بعض الفنانين والباحثين اللذين اجتمعوا في جامعة كانساس في الولايات المتحدة الامريكية وهو العمل على انتاج عرض ينجحون فيه في دمج الفضاء والممثلين الفعليين مع اجواء الواقع الافتراضي . وقد تسببت فكرة ادخال انتاج مماثل بداخل الملف الرسمي لجامعة المسرح في الكثير من الارتباك , حيث ان العلاقة بين المشهد الرقمي والمشهد المادي تبدو كعلاقة بعيدة الاحتمال وجريئة . وبعد تنفيذه نال العرض اعجابا شديدا واصبح العرض الاول في هذه السلسة , وما زال يعتبر حتى اليوم العرض الرائد في التجريب في هذا المجال . \' موثقا في اشارته التاريخية هذه الى مشروعية الريادة الرقمية المسرحية عالميا فضلا عن ان هذه التجربة كانت قد ازالت بعضا من الشكوك والغموض الذي احاط حينها حول الواقع الافتراضي مصطلحا وتطبيقا الامر الذي اثار اهتمام عدد من المسرحيين جدليا ونقديا بين مختلف وموافق حول طبيعة مستقبل مثل هذه التجارب المسرحية .
كما يؤكد بيتزو في هذا الفصل على توضيح ان الواقع الافتراضي كجزء من الوسائط المتعددة الرقمية يرتبط ببيئة التمثيل ويحاكي او يبدع واقعا من خلال استخدام تقنياته المحددة ,وبالتالي يكشف هذا الواقع عن علاقات مثيرة للاهتمام مع فن المسرح ,ويذهب للتفريق مابين العرض المسرحي الرقمي بوصفه الوسيط الجديد و الفنون المرئية والسمعية الاخرى وذلك بالعودة الى المنظور السيميوطيقي نصل الى اكتشاف مفاده \' ان الواقع الافتراضي ايضا يتحدث بلغة تربط بين سلسلة من الصور الفاعلة والنتيجة بالتحديد هي ان الديناميكية بين التعبير (معنى النص) و اللاتعبير (الاداء الذي تقوده الحواس) يتم ضغطها في علامة واحدة هي في ذاتها حدث فعل ... ان شاشة تلفاز مفتوحة في وسط صالة ونحن على سبيل المثال نقف في المطبخ لاعداد الغداء تستمر في الاداء تماما كما وكاننا نجلس امامها على الاريكة لمشاهدة الارسال اذن فالجهاز ما زال يحتوي على اقل حد ممكن من الاداء حيث يعرض حدثا يحدث بالفعل في مكان اخر ,انه وسيلة لنقل الحدث من جانب واحد , ان شاشة الكمبيوتر المفتوحة دون مستخدم تصبح ثابتة ,لاتفعل اي شيء ,لا ترسل ولا تبث اي شيء اخر ,باختصار, لا وجود لها الا من خلال العلاقة مع المستخدم \' وهذه تعد اهم خاصية اختلاف بين صورية الحاسوب وصورية الشاشات الاخرى.
وفي المبحث الثاني من هذا الفصل ( الجسد الواقعي والمشهد الافتراضي ) يتوقف المؤلف عند محاولات السينوغرافي مارم رياني – جامعة كانساس في تطبيقاته الممكنة للتكنولوجيا الرقمية والتي يمكن استخدامها في الاخراج المسرحي منذ عام 1987م حيث استخداماته الرقمية والرسوم الثلاثية الابعاد خاصة كاداة لتنفيذ اسكتشات السينوغرافيا . ليصل الى ربيع 1995م حين انتج ( رينيه ) بالاشتراك مع (رون ويليس ) عرض ( الالة الحاسبة - مشروع واقع افتراضي ) لالمر رايس , وهو عمل ذات نزعة تعبيرية وكانت مناسبة حينها تم فيها انشاء معهد اكتشاف الواقع الافتراضي وهو المعهد – بحسب اشارة المؤلف – الذي مازال يعمل تحت مظلة جامعة المسرح في كانساس .. ويذكران  رينيه وويليس  كانا حريصين على ان لا يصبح العرض مجرد ( حالة عرض ) showcase من الخدع والمؤثرات التكنولوجية كانا يبحثان عن نص يمكن من خلاله ان يصبح موضوع التكنولوجيا حافزا للتفكير في الخدمة الانسانية , نص يكون فيه استخدام الواقع الافتراضي شيئا ضروريا وليس مقحما .\' والمعروف عن هذه المسرحية ان كثير من احداثها غير واقعية ومتخيلة اي انها اقرب الى العالم الافتراضي فعلا بالرغم من ارتباطها باماكن واقعية من الحياة اليومية الا انها تمثل العلامة الواضحة للجنون او للكابوس ,انها نظرة الهلوسة التابعة للنزعة التعبيرية التي نراها في الحدث , لقد هيمنت الاجواء الكابوسية التكنولوجية على الجمهور بامتياز ونقلتهم لعوالم متحولة افتراضية قابلة للتحول باستمرار .. كما ويستعرض بيتزو تجارب استخدمت ذات المنحى الرقمي في معالجات مخرجيها واستندت على نصوص مشهورة لكتاب مثل ( صموئيل بيكت ) و ( ارثر كوبيت ) و (كريستوفرمارلو) وضعها تحت يافطة عروض المسرح الافتراضي . فمثلا نذكر ما ثبته المؤلف عن عرض اجنحة لكوبيت: \' وهكذا يظهر هذا العرض قدرة فريدة على ان يجمع في بناء درامي ومشهدي متأثر بأعراف المسرح التقليدية ( الحدث الذي يدور في فصلين والاطر المنوعة , مواجهة المشهد للجمهور , السينوغرافيا ذات المواد الواقعية ) موضوعات ولمحات فعلية من لغات الوسائط المتعددة الجديدة , ويدخل الكومبيوتر وشبكة الانترنت بقوة ليشتركا في العرض على مستويين . في المستوى الاول الذي يظهر على الفور نشهد الوجود المادي للجهاز ولمستلزماته , فالكومبيوتر يظهر في المشهد في حجرة دانيال ثم يتضاعف على شاشات العرض ثم يصبح وجودا ماديا مع البطل الذي يقص دوافعه على الانتحار . وجود التكنولوجيا على المسرح والتكرار المستمر لذكر اسماء ادوات الكومبيوتر ( ملفات , هارد دسك , كلمة المرور , ويب , وهكذا ) جميعها تشهد الصلة بين البطل وتكنولوجيا المعلومات .\' وفي مكان اخر يشير بقوله : وبهذا الترتيب للاعتبارات تم وضع محاولات ذلك الذي يطلق عليه ( مسرح الانترنت ) web – theatre  يتعلق على المسرح بأحداث استخدمت تكنولوجيا خاصة لنقل الفيديو والصوت مباشرة خلال شبكة الانترنت والتي عادة ما توضع تحت مصطلح الفيديو كونفرس مؤتمر اليكتروني .
وفي نهاية هذا الفصل نقف عند مشروع ( العرض الكوني ) وهو مشروع تبنته مجموعة من الفنانين السويديين عام 1995م لتوظيف الشبكة العالمية للمعلومات بداخل عملية الاخراج المسرحي وقد كشف المشروع عن امكانية هذا التوظيف في نشر العرض المسرحي ومشاهدته باختلاف الزمان والمكان لدى الجمهور وفي عرض تفصيلي تقني شبه معقد نتوصل الى حقيقة ان المسرحية الرقمية نصا وعرضا ليست بعيدة المنال اذا ما توفرت الخبرات التقنية لها والمستلزمات الفنية الاخرى ونية القائمين الحقيقية على فكرة المسرح المستقبلي الذي ينتظرنا انه فعلا المسرح الرقمي لا غيره .
اما الفصل الرابع من الكتاب ( التأليف الدرامي الاجرائي والشخصيات الاصطناعية والممثل الافتراضي ) فقد رجع بنا الى تاريخية الممثل وتحولاته التطورية عبر اجتهادات عدد من المنظرين والمخرجين فبالعودة الى بدابات القرن العشرين مثلا يقول بيتزو : \' ولد عرض القرن العشرين في جو ثقافي مجزء ومتناقض وشهد ازدهارا يانعا لافتراضات حول تحول الممثل , بل اختفاءه الكامل او تحوله الى كائن مصطنع جديد . ان ماريونيت كلايست و الدمية المثالية لكريج و مانيكانات ارتو القلقة , وممثل الميكانيكا الحيوية لمايرخولد وراقصات البالية الهندسيات لشليمير , والخيالات التكنولوجية لرمبوليني و ديبيرو هي بعض من الامثلة الواضحة في هذا الاتجاه ,وليس هنا على كل حال الموقع الخاص بأقتفاء تاريخ الممثل الذي تم انكار ادميته الا ان من المفيد ان نعيد الى الذاكرة تلك الاسماء لتوضيح كيف ان الابحاث والمحاولات التي تهدف الى وجود مسرح ( فوق تكنولوجي ) والتي في بعض الحالات تغزو مسارح هذه الالفية الجديدة يمكنها ان تقدم حلولا من خلال علوم المعلوماتية لتلك المشكلات التي كانت قد طرحت بالفعل في نهاية القرن السابق . \' فهل يمكن فعلا ان نتخلى عن فكرة :ان المسرح هو مصنع الانفعالات ؟ وهل يمكن تخيل العرض المسرحي بكليته عبارة عن دمى تتحرك بتقنية مبرمجة يتحكم بها الجمهور على هواه رقميا ؟ واسئلة اخرى تخترقنا وتحاول ان تؤسس مسارا ثقافيا جديدا يورده المؤلف هنا بعنوة ( ثقافة ما بعد الحداثة والفنون الرقمية ) معلنا تساؤلاته المهمة في نهاية الكتاب ونحن نسال معه :  هل القصص التي سنستلها من التكنولوجيات الجديدة للتمثيل ستعني شيئا بالطريقة نفسها التي كانت تعنيه اعمال شكسبير ؟ و هل يمكننا تخيل دراما اليكترونية تتطور ابعد من المتعة والتسلية الساحرة للوصول الى تلك الطاقة والابتكار الابداعي الذي نربطهما دائما بالفن ؟ وعن قلقه يعبر بيتزو بصراحة ويقول : \' انا لا أتساءل الآن إذا كان من الممكن ترجمة مسرحية معينة لشكسبير في صياغة اخرى , بل سؤالي يتعلق بما اذا كان هناك امل في ان يقدم على الدراما الاليكترونية شيئا حقيقيا ومرتبطا بظروفنا الانسانية , ومعبر عنه بروعة هكذا عنها كما عبر شكسبير عن الحياة في مسرحه الاليزابثي  ؟ \' .. يبدو اننا فعلا وبعد كتاب انطونيو بيتزو هذا  – كما قلنا في ورقتنا الاولى عام 2005م -  بحاجة الى وقفة اخرى بل الى وقفات وتاملات اخرى طويلة ومتابعات اخر اطول مرهونة بالتجارب التطبيقية من شانها ترصين هذه الرقمية مسرحيا الى جانب البحث والتنقيب واكتشاف الافكار التي تخصب مستقبلية مسرحنا العربي الرقمي / الحلم .
كتبه: ع.د. اللحام

http://www.startimes.com/?t=15217813

Friday 3 November 2017

لكن الألم أيضًا بلا علم - داتشا ماراييني - مقالة نُشرت 2015 في جريدة القاهرة


هل نحن بالفعل أمام 11 سبتمبر أخرى، منذ الصباح تتردد هذه العبارة، وأعلنتها أيضًا منظمة داعش عندما أعلنت مسؤوليتها عن الحوادث البشعة التي اجتاحت باريس مساء أمس، قالوا إنها 11 سبتمبر فرنسا.لكن هل تغير شيئًا منذ أربعة عشر عامًا. لازلت أتذكر ما حدث في ذلك اليوم بالتفصيل، بل وتابعنا جميعًا بعض ما كُتب أيضًا في تلك الفترة. ومن الأشياء التي تركت أثرًا كبيرًا وقتها كانت مقالة نشرتها الصحفية والكاتبة المعروفة وقتها "اوريانا فالاتشي"،  بعنوان "الغضب والكبرياء"، نشرتها جريدة الكوريري ديللا سيرا، في 29 سبتمبر 2001. أتذكر كيف كانت مقالة ينبعث منها الغضب والكراهية، مقالة أثارت الرأي العام وقتها جدًا، وقام بالرد عليها الكثيرون. وصفتها فالاتشي  نفسها "بالقنبلة التي طالما رغبت في تفجيرها"، ليس فقط ضد الإسلام والعرب، بل أيضًا ضد العالم كله المتواطىء في نظرها، ولم تستثن سوى أمريكا التي كانت تشعر بالتعاطف الشديد معها. ولا أشك أن أصواتًا مشابهة لصوتها ستطلع علينا مرة أخرى في هذه الأيام أيضًا.فيما يلي، اجزاء من رد الروائية والصحفية الإيطالية داتشا ماراييني، والذي نشرته في الجريدة نفسها بعدها بأسبوعين، بعنوان "لكن الألم بلا علم". عزيزتى أوريانا،لطالما أعجبنى صدقك وشجاعتك، وشعرت بالسعادة عندما رأيت اسمك مرة أخرى في الكوريرى، ولكننى عندما قرأت مقالك الطويل والملئ بالانفعالات، يجب أن أصارحك أن الإعجاب بشجاعتك تحول إلى قلق من افتقارك للبصيرة.فلقد أصبح من يميز بين الإرهاب والإسلام، بالنسبة إليك، هو مثقف منافق، لعين، مسكين ومرائى، وبهذا المعيار سيكون البابا نفسه منافق. وماذا ستقولين عن الرئيس بوش، والذى تمتدحينه بتأثر شديد؟ أنت تقولين:"فلتعتادوا على اللعبة المزدوجة، وليعميكم قصر النظر عن الرؤية، ألا تفهمون أم لا تريدون أن تفهموا أننا أمام حرب دينية". تكتبين بنبرة عسكرية لا تحسدى عليها وتقولين "إنها حرب ربما لا تهدف الاستيلاء على أراضينا، ولكنها من المؤكد حرب تستهدف أرواحنا، تهدف القضاء على حريتنا وحضارتنا، حرب تستهدف أسلوبنا فى الحياة وفى الموت، تستهدف طريقتنا فى الصلاة أو فى عدم الصلاة، تستهدف طريقتنا فى الأكل والشرب وارتداء الملابس، تستهدف فى طريقتنا فى التسلية والتعليم. ألا تفهمون أم لا تريدون أن تفهموا إننا إذا لم نقف أمامهم وندافع عن أنفسنا، إذا لم نحارب سينتصر الجهاد، وسيدمر العالم الذى نجحنا فى بنائه سواء بطريقة جيدة أم سيئة، ذلك العالم الذى غيرناه وطورناه، وجعلناه أكثر ذكاءاً، وأقل نفاقاً، بل بلا نفاق. إنهم سيدمرون حضارتنا وفننا، وعلومنا وأخلاقنا، وقيمنا ومتعنا".اعلم يا أوريانا، لا يمكن لأحد أن يطلب منك التفكير بهدوء، ولكن بالله عليك، اوقفى غضبك وانظرى حولك. إن نيويورك بالذات، تلك المدينة التى اخترت أن تعيشى فيها هى أكثر مدينة متعددة العرقيات موجودة فى العالم، وأنت تعلمين أن فى البرجين مات أيضاً أكثر من أربعمائة مسلم، سُحقوا، واختنقوا واحترقوا أحياء، بيد بعض المجرمين.إن أول من دفع ثمن التعصب الدينى كانوا أولئك الفتيات اللاتى ذُبحن فى الجزائر، بكل بساطة، لأنهن أردن الذهاب إلى المدرسة، والفلاحين الذين لم يرغبوا سوى في زرع أراضيهم ويبيع منتجاتهم فى الأسواق المختلفة، السيدات اللاتى تم رجمهن فى أفغانستان لأنهن البرقع لم يكن مطابقًا للمواصفات.  لم يكن المسلمين – عامة – هم الذين ارتكبوا الجريمة البشعة، كما لم يكن الإيطاليين – عامة – هم الذين ألقوا بالقنبلة على البنك الزراعى فى ميلانو، وعلى محطة بولوينا، ولكن من فعل ذلك كانوا أشخاص محددين لهم اسم ولقب.إنهم أولئك الأشخاص يجب اكتشافهم ومحاكمتهم وإدانتهم، كما حدث بعد محاكمة النازية فى نورينبرج. إن الحرب ليست هى الرد المناسب ضد الإرهاب، ولكن ربما حان الوقت لتمارس الشرطة الدولية عملها. لقد كتبت قائلة: ".. لأن ما يتعرض للخطر هو مصير الغرب، وما يصارع للبقاء هى حضارتنا..!" "فإذا سقطت أمريكا ستسقط أوروبا، وسيسقط الغرب، سنسقط جميعاً..... وبدلاً من الأجراس سنستمع لصوت المؤذن، وبدلاً من أن نرتدى التنورات القصيرة سنرتدى الشادور، وبدلاً من أن نشرب الكونياك سنشرب لبن الجمال."إن نزعتك التحذيرية تلك، والتي يمكنني أن أفهم أن سببها خبراتك المؤلمة مع الحروب، إنما تتسبب فى إحياء كراهيات قديمة ومخاوف أقدم تبعدنا عن امكانية القبض على المجرمين الحقيقيين فى هذه المذبحة.لا يمكنك القول بكل بساطة: "ولكن فى إيطاليا وحيث الجوامع فى ميلانو وروما وتورينو تشغى بالجبناء أتباع بن لادن، وبالإرهابيين الذين ينتظرون الفرصة ليفجروا قبة القديس بطرس.." لأن هذا ليس حقيقياً... ففى مثل هذه الأيام فى باليرمو وفى نابولى، كانت هناك تظاهرات للعرب والإيطاليين من أجل من سقطوا فى منهاتن، ولا يمكن إطلاق أحكامك على من يعملون ويكافحون للاستمرار بكرامة فى حياة غربة صعبة."هل تستطيع أن تشرح لى هذا أيها الفارس الهُمام؟! هل رجال الشرطة والبوليس لديك بهذا العجز؟ هل مخابراتك السرية بهذا الغباء؟ هل موظفيك بهذا العته؟" ثم تصرين على الاستمرار فى طريقة وكيل النيابة لتقولى: "أم أنك تخشى إذا قمت بالتحريات الجادة والتى ربما تقودك للقبض على الكثيرين أن ينعتوك بالتعصب!!ولكن يا أوريانا، إذا كان البلد الذى تتخذينه نموذجاً يُحتذى به، لم يكن قادراً على توقع هذه الكارثة، لماذا تعتقدى أن هذا واجب على بلدنا؟! إن الإرهاب جبان، يعيش متنكرًا، يخدع، ويستغل الثقة والحرية، والتى كما قلت أنت، هما أفضل شيئان في البلاد التى لا تسيطر عليها الثيوقراطية.  يبدو لي أن ضخامة المشروع حالت أن يتوقعه أحد وبالتالى أن يتمكن من تجنبه. إن فكرة تحويل الطائرات المسالمة إلى متفجرات تقتل الآلاف من الأبرياء شيء يصعب، بالتأكيد، تخيله. يبدو لنا اليوم الفوضويين الذين اغتالوا ملكاً أو رئيس دولة– إذا تذكرناهم اليوم – أطفالاً سذج، إلا أنهم هم أيضاً غيروا فى مجرى التاريخ.ولكنهم  استهدفوا شخصاً معيناً، يؤمنون أنه مدان بجريمة قتل، تعذيب، استغلال السلطة، إلخ... نحن الآن أمام شيء حدث فى فترة سلام، بنوع من الخداع المتبجح والذي لا يمكن توقعه، والذى أصاب أبرياء كانوا يجهلون تماماً الخطر الذى كان يحدق بهم، هى عملية إبادة جماعية، نفذوها بوقاحة متناهية، بقسوة وحشية، شئ بعيد عن كل تصور واحتمال. وباندفاع متهور، تؤكدين إنك حتى لا تريدين أن تسمعى أحد يتحدث عن ثقافتين، لأنه بهذه الطريقة يتم وضعهما على المستوى نفسه "وكأنهما واقعين متوازيين". ثم تنطلقين مثل الإعصار لتفعلى شيئاً – يرفض أي شخص لديه ذرة من الفهم عمله- وهو المقارنة بين الحضارتين.ليس من الضرورى أن يدرس المرء الأنثروبولوجيا، ليعرف أن أى مقارنة بين الثقافات لا معنى له. حيث أن الحضارة فى تغير مستمر، فكل ثقافة – حتى تلك التى تبدو بدائية جداً – تعيش على قيم وقواعد، أصول، ونظام خاص،  أشياء لا يمكن احتقارها على الإطلاق.كل إنسان هو جزء من نظام مكون من المعرفة والآراء، سواء كانت يتميز بالنجاح أم بالفشل، فهو يستحق أن يعيش بكرامة وأن يحظى باحترام الآخرين.ولقد كانت للحضارة الأفريقية – فى حقبة ما – أهمية أكثر من حضارة روما وأثينا، وذلك إذا لم نتحدث عن الحضارة الإسلامية. فلعدة قرون علم الإسلام أوروبا كيف تحصى النجوم، وكيف تقوم بحساب المسافات بين الكواكب، وكيف تفكر وتكتب العمليات الحسابية.فلنترك إذن جانباً الحديث عن الحضارات. فعقب آلاف السنين من الكراهية والحروب يجب أن نكون قد تعلمنا إن الألم لا علم له، وإن ما يتطلع إليه أغلبية البشر هو نوع من التعايش السلمي بين الأفراد المنتمين إلى ثقافات مختلفة، والمؤمنين بديانات مختلفة.إن برجى منهاتن يقولان لنا بوضوح شيئاً مقدساً، وهو أن الحضارة الحالية مصنوعة من بوتقة تجمع الثقافات المختلفة. ففى البرجين اللذين جُرحا حتى الموت كان يعيش – وبكل تحضّر – أشخاصًا ينتمون إلى أربعين جنسية. لم تكن أمريكا لتصبح ما هى عليه الآن إن لم تكن تستقبل وتحتضن الجميع.  أمريكا التى تحبينها، لا تخاف من أن تفقد هويتها. أندلعت فيها حربًا أهلية وانتصر فيها الجانب الأفضل، الجانب القادر على الاستقبال والتضامن.ولكن واقع الامر هو أن البلاد الغنية والقادرة يمكنها أن تسمح لنفسها بأشياء غالباً لا يُسمح بها للبلاد الفقيرة: حرية الكلمة وحرية الفكر، حرية التعليم والديمقراطية وحرية البحث العلمى والفن. إن الدول التى تشعر أنها على هامش التاريخ هى التى تعانى من صعوبات البقاء، وهى التى تواجه المستقبل بحزن وألم عندما تجد نفسها وقد غرقت فى الكراهية.لا يعنى كون الإنسان يتمتع بالثراء والقوة أنه الأفضل، ولكن من المؤكد أن عليه تحمل قدراً أكبر من المسؤولية.إنك تتحدثين عن المهاجرين الذين لجأوا إلى أراضينا باحتقار شديد وكأنهم هم المسؤولين عن كل الجرائم: "إن الأمر لا يتعلق بمجرد هجرة، إنه غزو يُقاد بطرق خفية... "أنا لن أنسى أبداً التجمعات التى ملأ بها المهاجرون المتسللون ميادين إيطاليا ليحصلوا على إذن الإقامة. تلك الوجوه المشوهة والشريرة، تلك القبضات المرفوعة، والمُهددة، تلك الأصوات الساخطة والتى أعادت إلى ذهنى طهران الخومينى".
إننى أتعجب من الطريقة التى يستطيع أن يرى بها الإنسان ما يرغب فقط فى رؤيته.ربما إذا دققت النظر، ودون أى مبالغة وادعاء، لأدركت ما أدركته أنا وكثيرون آخرون مثلى؛ ربما رأيت اليأس الذى أحاط بهؤلاء فجعلهم يتركون منازلهم وبلادهم ليهربوا إما من حرب قاسية أو بحثاً عن العمل أو عن أى شئ يسمح لهم بالبقاء على قيد الحياة. من المؤكد ان هناك كثير من المجرمين اندسوا فى وسطهم، مثل المجرمون الإيطاليين الموجودون فى إيطاليا... ولكن يالتعاسة من لا يستطيع التمييز بين الصالح والطالح.يمكنك أن ترى بوضوح أن أغلبية المهاجرين هم أناس فقراء، لا يعرفون إلى أين يلجأون، ويتركون منازلهم خوفاً من القنابل وويلات الحرب. لا أستطيع أن أفهم كيف أمكنك أن تقولى بكل وقاحة: "هذا أفضل لهم لأنهم يستحقون ذلك...!" وإذا كان النساء فى بعض البلاد يتمتعن بقدر كبير من الغباء بحيث يقبلن ارتداء الشادور فتباً لهن... وإذا كن بالغباء ليقبلن ألا يذهبن إلى المدرسة، وإلا يذهبن إلى الطبيب، وألا تلتقط لهن الصور فتباً لهن.. وإذا كن بالحماقة التى تسمح لهن بالزواج من شخص غبى يرغب فى التزوج من أربع نساء... فتباً لهن أيضاً."إلا أنك تعرفين حق المعرفة إن أولئك النساء يخاطرن بحياتهن طوال الوقت، وأنها كلها أشياء تفرضها عليهن ببشاعة السلطة الديكتاتورية العسكرية. لقد ذهبت إلى أفغانستان قبل أن يحكمها الطالبان، وعرفت سيدات محاميات ومدرسات، ولم يكن مختبئات ولا ملتحفات كالأشباح. ولكنك لا تميزين: "أسامة بن لادن يؤكد أن كوكب الأرض كله يجب أن يدين بالإسلام، وإننا جميعاً يجب أن نهتدى للإسلام، سواء بالحسنة أم بالقوة، وهو سيفعل ذلك، ولهذا سيقتلنا وسيستمر فى ذبحنا".ولكن لماذا لا تطلقين على الأشياء مسمياتها الحقيقية، إنه عمل إرهابى متعصب، وستتم محاربته والقضاء عليه؛ إذا قمت أنت بتحويله إلي أولى التحركات الحربية للحرب المقدسة فأنت بذلك تشاركينهم فى لعبتهم. إنه فخ يا أوريانا!  ويبدو لى أنك قد وقعت فيه بالفعل.أما بالنسبة للكاميكاز، فأنت تقولين أنك لا تشعرين بالرحمة تجاههم، ولكن ألا تعتقدين أن من يستحقون هذا الاحتقار، وعدم الرحمة هم الذين يجندونهم، ومن يرسلونهم للموت، ومن يقنعوهم أن أجسادهم ليست سوى ألغاماً أو أسلحة؟إليك إذن من يستحقون الاحتقار والكراهية؛ إنها تلك الجماعات المتعصبة التى تحول البشر، والمراهقين من الشباب إلى أدوات قتل، وكل هذا فى سبيل إظهار قدراتهم وأيديولوجياتهم، إيمانهم وتعصبهم. ولكن هل يمكن أن يكون هناك إله يميل للدماء، وعدو للبشر ليطلب كل هذه الضحايا!؟أنتِ تقولين إن غضبك قد تفجر عندما عرفت أنه فى إيطاليا، حدث كما حدث فى فلسطين حيث شعر الناس بالسعادة لهذا الهجوم الإرهابى. أستطيع أن أؤكد لك أنه لم يحدث فى إيطاليا أن احتفل أحد بهذا الحادث البشع، لم ير أحد ولا صورة واحدة لاحتفال أو لاحتفاء ما سواء فى التلفزيون أم فى الشوارع أم فى أى مكان آخر.لم يشهد أحد سوى الدهشة والخوف والألم والرعب، لقد حدقنا جميعاً فى تلك الكارثة، شهدناها ونحن نشعر بالعجز والدموع تتساقط من أعيننا، تلك الأجساد التي كانت تتدلى بجوار حوائط ناطحتى السحاب مترددة بين أنه تلقى بنفسها لأسفل أو بأن تواجه الموت حرقاً.أؤكد لك، لم يفرح أحد فى إيطاليا، بل لقد كان فى البرجين المئات من الإيطاليين أيضًا، والذين تحولوا بدورهم إلى قطعاً صغيرة. وربما يمكننا أن نقول أن أولئك الذين ماتوا على الفور محظوظين، لأن البعض ذبل تحت الانقاض فى محاولة يائسة للاتصال بذويه، كيف يمكن أن ننسى تلك الأصوات التى من وسط رعب ذلك الانهيار أرسلوا بشجاعة رسائل حب لذويهم؟! كيف نبعدهم عن أذهاننا؟أحياناً نحاول أن نزيل من على كاهلنا ثقل ما نشعر به من معاناة الآخرين، ثقل خطأ لا يُغتفر، فنغلق أعيننا. ولكن عندما يُقدم لنا الموت مباشرة عن طريق شاشة التلفزيون، ترفض جفوننا أن تُغلق، ولا يستطيع أحد أن يشيح بوجهه، بل ويشعر كل منا أنه تورط بالفعل. فى واقع الأمر يموت جزء منا نحن أيضاً. وقد مات بالفعل جزء منا جميعًا، ألقينا نحن أيضًا بأنفسنا فى الفضاء مثل أولئك المساكين التعساء والذين رأيناهم يرتعدون لحظات كأنها الدهر قبل أن يتمزقوا على الأرض. إن الازدواجية في التفكير، وجريمة القوة الأحادية، والاستخدام الخاطئ للتكنولوجيا، والتراكم الجنونى للأموال، أشياء لا أصل لها في أي من الديانات، وإن كان بعض الأفراد المتعطشين للنجاح وللسلطة قد استخدموا الديانات ليفرضوا من خلالها أسباب الموت والرعب، لنعاملهم بما يستحقون، لنحاكمهم محاكمة علنية، ولكن لنحاول أن نتجنب الحروب التى عادة وغالباً لا تؤذى سوى الأبرياء.محبتي، داتشا مارايينيترجمة: د. أماني فوزي حبشي

Wednesday 1 November 2017

عن داريو فو مؤلف إيزابيللا وثلاث سفن ومُحتال

في شهر أكتوبر من عام 2016، رحل الايطالى داريو فو الحائز على جائزة #نوبل_الاداب العام 1997 عن تسعين عاما على ما ذكرت وسائل اعلام ايطالية عدة. وكان فو المعروف بعدم امتثاله للاعراف، اشتهر عالميا العام 1969 بفضل كتابه “ميستيرو بوفو”، وهو ملحمة عن المضطهدين مستوحاة من ثقافة القرون الوسطى يعلم فيها البطل، وهو بهلوانى الثورة من خلال الضحك. عند فوزه بجائزة نوبل عام 1997 فسرت لجنة نوبل قرارها بمنح داريو فو الجائزة قائلة“كالمعتاد فإن مسرحيات داريو فو تطلق صرخات اعتراضها على الظواهر السلبية لمجتمعنا اليوم، وإذا كان أحد يستحق لقب المهرج، فهو فو بالتأكيد، إذ أنه استطاع من خلال المزج بين الهزل والجد ايقاذ الضمائر الفاسدة، ومواجهة الظلم الاجتماعي… لقد تعرض للكثير من المخاطر بسبب موقفه الاجتماعى والسياسى المناهض للظلم، ولكنه فى مقابل ذلك حصل على التقدير والحب من جمهوره”.داريو فو الذى رحل عن تسعين عاما عمل أيضا كممثل، ومن أهم أعماله “السر الغامض” و“موت فوضوى صدفة”، و“لن ندفع، لن ندفع”، و”إيزابيللا وثلاث مراكب ومحتال”. من هو داريو فو؟ولد داريو فو عام 1926 فى قرية صغيرة قريبة من حدود سويسرا، وكان يعيش فى قريته الصيادون والمداحون الذين يروون القصص الشعبية والخيالية فى الطرقات، مستخدمين لذلك التعبيرات الجسدية. وعند بلوغه العشرين من عمره، حاملا معه تراث قريته الإبداعى من قدرة هائلة على التعبير الجسدى والارتجال، انتقل إلى ميلانو حيث تقابل مع شريكة كفاحه وحياته، فرانكا رامى سليلة عائلة رامى الفنية العريقة.كان قد حضر من مقاطعة فاريزى، ابن رئيس محطة قطار، وكان قد بدأ يستمع إلى أدباء المدينة، ويحاول تقليدهم فى القطار السريع الذى يستقله من منزله حتى ميلانو، حيث كان يدرس العمارة.وكان يقص دائما كيف كانت المقابلة الأولى الرائعة مع فرانكا رامى، فى المصعد، هى الشابة الجميلة، وهى ترتدى ملابس السهرة.يقول فو إنه لم يجرؤ على التطلع إلى وجهها، وإنها هى التى بدأت فى مغازلته. ومنذ تلك اللحظة لم يفترقا مطلقا، وبدأ تاريخهما المشترك، فى الحب، والعمل، وفى الالتزام السياسي.كان هو يكتب نصوصه التى لا تقاوم، وكانا يمثلانها سويا؛ يواجهان الشرطة التى تطردهما، والاعتقال الذى كان يزيد من جماهيريتهما. ولكن لم يكونا مكروهين فقط من الأثرياء والقادرين، الذين كانا يضنيانهما، ولكن كان أعضاء الحزب الشيوعى الإيطالى أيضا يستاءون من حريتهم فى السخرية من أتباع ستالين، والنقابات. وفى المناطق الشيوعية منعوهم من استخدام المسارح، بل وقد قابلتهم لحظات مأساوية عديدة، منها على سبيل المثال انفجار قنبلة فى منزلهم فى شيزيناتيكو، وأخرى فى المسرح.علاقة خاصة مع الجماهيربدأ فو عمله مع فرانكوا بارينتى وجوستينو دورانو حيث قدم مع الثنائى كوميديا تعتمد على السخرية اللاذعة، وقدم هو فى البداية مونولوجات “القزم المفزع” التى حازت على إعجاب الجميع.واستمر العمل مع الثنائى حتى بدأ عام 1958 بفرقته الخاصة وقدم مسرحيته “الكوميديا الختامية” .وقد نهج فو منهج الاقتباس إذ كان يستعين بكل عناصر الكوميديا التقليدية، والتراث التقليدي. وتميز فو بقدرة هائلة على الارتجال والتواصل مع الجمهور أثناء تقديمه لعروض، وقد تميزت كتاباته بالقدرة الهائلة على التعبير عن الأحداث والمشاعر والمناقشات الخاصة بالجمهور.وعمل فو وفرانكا لفترة مع التليفزيون الإيطالي، ولكن تعرضت أعمالهما للرقابة فاعترضا وانسحبا من العمل، واستمرت القطيعة بينهما وبين التليفزيون أكثر من 14 عاما، وقد قام التليفزيون بحرق أعمالهما التى تعرضت للرقابة فى ذلك الوقت.الالتزام السياسى والمقاومةومنذ عام 1968 بدأ التزامهما السياسى يتخذ مسارا أكثر حدة ووضوح من خلال المسرح والعروض، بل والانضمام للعديد من الحركات السياسية، والتعرض للقضايا السياسية العالمية والمحلية.ففى الفترة بين 1968 و1980 قدما عدة عروض مسرحية منها: “أريد أن أموت هذا المساء حيث لا فائدة” و “موت فوضوى صدفة”، و”الكل متحدون، الكل معا”، “فدائيون”، و “كفانا فاشية” وغيرها. وكانت تلك العروض تعرض المقاومة الإيطالية والفلسطينية حيث كانوا يدعون إلى مناهضة الظلم أيا كان.وخلال تلك الفترة تعرض فو للاعتقال بسبب اتجاهاته السياسية وسخريته اللاذعة من كل السلطات، بل وتعرضت زوجته للاعتقال والتعذيب.وفى عام 1980 رفضت الولايات المتحدة الأمريكية منح فو ورامى تأشيرة دخول، واستمرت على موقفها هذا بالرغم من اعتراض مثقفيها، حتى عام 1985.رأيه فى الجائزةرأى فو إن فوزه بجائزة النوبل يعد إعادة لكرامة الممثلين فى تركيا والجزائر وافغانستان والصين، وفى الدول الأخرى، والذين اضطهدوا لأنهم عرضوا مسرحياته المعارضة.وأضاف أن هذه الجائزة تؤول إلى كل مثل استطاع أن يحارب الظلم والفساد بالسخرية، وقال “لقد توج أحد المهرجين ولكن لا تنسوا كم منهم اضطر على أن يلتزم الصمت”.إن جائزة نوبل هى جائزة مُنحت أيضا لتلك الجموع التى ضحكت معه وشجعته، ومعه آمنت بذلك العالم الأفضل الذى لا يعلم أحد إذا كان يمكن تحقيقه أم لا.وبجانب منحها إلى مؤلف مسرحى عظيم «وممثل ومخرج» محبوب وقُدمت عروضه فى جميع أنحاء العالم، فلقد مُنحت هذه الجائزة للحنين إلى روح الجماعة، تلك الروح التى كانت تبعث على الأمل فى إمكانية تغيير الحياة، والقضاء على الظلم، والوصول إلى السعادة.إيطاليا بين الفرح والاعتراضوانقسمت إيطاليا فى تقديرها للموقف بين مرحب ومعارض، فلقد كان هذا الفوز خارج نطاق جميع التوقعات. وقد عبرت جميع الأوساط الإيطالية عن اندهاشها من هذا القرار.وعن قرار الأكاديمية يقول أوميرتوا إيكوا الأديب الإيطالى الشهير: إن فوز فو يُعد أحد مفاجآت الأكاديمية، وأنا أشعر بالسعادة لأن فو صديق حميم، ولأن من حصل على الجائزة ليس أكاديميا. من لا يحب فو لا يعرفه، فما يدهشنى هى تلك الشعبية الضخمة التى يتمتع بها فى الخارج، شعبية من جمهور لا يعرف سوى مؤلفاته المسرحية.المشكلة فى إيطاليا هى أننا لم نفصل بين مؤلفاته وشخصه، واعتقدنا أن مسرحياته لا تنجح إلا بوجوده وهذا عكس ما يحدث قى الواقع.ويضيف إيكو أنه لا يوافق من يقولون إن الأدب قد أصيب فى مقتل بمنح فو جائزة نوبل، إذ إن هذا سيجعل الأكاديميين والدارسين يبحثون عن نوع من الإنتاج الأدبى لم يلتفت إليه أحد.وعلى الصعيد الآخر أبدى العديد من النقاد استياءهم، وأعلنوا أنه هكذا تعلن الأكاديمية للعالم رسميا أن إيطاليا موطن المهرجين. ويعترضون على عدم منح الجائزة للشاعر الإيطالى ماريو لوتزي، ويسترجعون الأمجاد الماضية للأكاديمية عندما اختارت بيرانديللو أو كوزيمودو.

مقال نُشر في جريدة القاهرة أكتوبر 2016
كتبته: أماني فوزي حبشي

Sunday 13 August 2017

مقدمة المؤلف إيتالو كالفينو لرواية أسلافنا - الجزء الخاص بالفسكونت المشطور



جمعت في هذا الكتاب ثلاث قصص كتبتها في عقد الخمسينيات. إن ما يجمع بين هذه القصص الثلاث هو الخيال فأحداثها تقع في أزمنة سحيقة وأمكنة متخيلة. وعلى الرغم من الاختلافات بين هذه القصص فإن هذه الخصائص المشتركة تجعلني اسميها "حلقة" بل "حلقة متكاملة"، أي منتهية ذلك لأني لا أنوي أن أكتب قصصاً أخرى من هذا النوع. وها قد أتيحت لي الفرصة لأعيد قراءة هذه القصص ولأحاول أن أجيب على أسئلة كنت أغض الطرف عنها كلما خطرت لي على بال: لماذا كتبت تلك القصص؟ ماذا أردت أن أقول؟ وما الذي قلته بالفعل؟ وما دلالة  هذا النوع من السرد القصصي في إطار الأدب اليوم؟
في البداية كنت أؤلف قصصاً تتبع  مذهب "الواقعية الجديدة"، كما كانوا يسمونها في ذلك الوقت، أي أنني كنت أحكي قصصاً حدثت  ليس لي ولكن للآخرين، أو كنت أتخيل إمكانية حدوثها أو أتخيل أنها حدثت بالفعل، و"الآخرون" كانوا أناسا "من الشعب" ولكن غالباً ما كانوا حالات استثنائية. على كل كانت شخصيات غريبة يمكن تقديمها فقط من خلال كلماتها أو إيماءاتها، دون أن أبحث كثيراً في خلفياتها الفكرية أو العاطفية. كنت أكتب جملاً مختصرة وسريعة. كان كل ما يهمني هو انطلاقة معينة أو سلوك معين. وكانت تعجبني القصص التي تدور أحداثها في  الهواء الطلق وفي الأماكن العامة، كالمحطات وكل تلك العلاقات الإنسانية بين الأشخاص الذين يتقابلون عن طريق الصدفة؛ ولم تكن تهمني وربما لم أتغير كثيراً منذ ذلك الوقت الحالة النفسية، وبواطن الأمور، والأمور الداخلية  والحياة العائلية والعادات والمجتمع (وخاصة إذا كان مجتمعاً صالحاً)
ولسبب ما بدأت بقصص المناضلين من رجال المقاومة إذ أنها كانت تحقق نتائج ناجحة حيث كانت قصصاً مليئة بالمغامرات والحركة، وطلقات الرصاص، كانت قاسية ومرحة إلى  حد ما، مثل روح هذا العصر، و تتميز بروح "الإثارة" التي تشبه الملح في الرواية. وكتبت أيضاً رواية قصيرة عام  1946 بعنوان "مدق أعشاش العنكبوت"، وفيها أخذت أصبغ كل شئ بقسوة الواقعية الجديدة، و لكن بدأ النقاد  يقولون إنني "أسطوري"، وفهمت أصول اللعبة؛ أدركت جيداً أن الكاتب يحصل على هذا التقدير  عندما يكتب بشكل أسطوري وخرافي عن مشاكل الطبقة الكادحة، أو عن أخبار الحوادث ولكنه لا يمكن أن يكون اسطورياً إذا كتب عن القصور و البجع إذ أن ذلك لا يتطلب أي مهارة.

          وهكذا حاولت أن أكتب روايات تتبع اتجاه الواقعية  الجديدة،  تحكي عن حياة الشعب في تلك الأعوام، ولكنها لم تحظ برضاي فتركتها كما هي بخط اليد في درج مكتبي. فإذا أخذت احكي بنبرة مرحة، كان الأمر يبدو مصطنعاً؛ فالحقيقة كانت معقدة جداً؛ وكان كل أسلوب أدبي استخدمته للتعبير عن هذا الواقع  يبدو مصطنعاً. وإذا استخدمت نبرة أكثر جدية وتأملاً كان كل شئ يتحول إلى اللون الرمادي، للحزن، وكنت أفقد أي بصمة تشير إليّ، أي الدليل  الوحيد على  أن من يكتب  هو أنا وليس شخصاً آخر. لقد كان جرس الأشياء هو الذي تغيّر؛ فلقد تباعد زمن الحياة المنفلتة  إبان فترة المقاومة وفترة ما بعد الحرب، ولم يعد المرء يصادف كل تلك الأنماط الغريبة التي كانت تحكي قصصاً استثنائية، أو ربما كنت ما زلت أصادفهم ولكنني لم أعد أتعرف على نفسي  من خلالهم ومن خلال قصصهم. واتخذُت الحقيقة مواقف مختلفة وطبيعية  في مظهرها الخارجي،  وأصبحت تلك الحقيقة حقيقة مؤسسية، فلم يعد من السهل رؤية الطبقات الشعبية إلا من خلال المؤسسات التى تمثلها؛ وأصبحت أنا أيضاً منضماً إلى فئة لها وضعها القانوني، فئة المثقفين  في المدن الكبرى، بحللهم الرمادية وقمصانهم البيضاء. ولكني فكرت: ما أسهل إلقاء اللوم على الظروف الخارجية، ربما لم أكن كاتباً حقيقياً، ربما كنت شخصاً كتب مثل كثيرين مأخوذاً بفترة التغييرات؛ ثم انطفأ بداخله هذا الحماس.
          وهكذا، بغصة في نفسي وبإحساس المرارة من كل شئ حولي، شرعت في كتابة الفسكونت المشطور عام 1951  لاستغلال وقت الفراغ. لم يكن لدي أي غرض ولم أكن أنوي اتباع إتجاه أدبي معين دون غيره، ولم تكن نيتي أيضاً استخدام الرموز الأخلاقية،أو حتى العمل السياسي بمعناه الضيق. كنت بالفعل متأثراً وإن لم أدرك ذلك بالجو السائد في تلك الأعوام، فلقد كنا في قلب الحرب الباردة، وكان يسود حولنا نوع من التوتر والتمزق الأبكم اللذين لم يظهرا في صورة مرئية ولكنهما كانا يسيطران على نفوسنا. ودون أن أدري وجدت نفسي أكتب رواية  خيالية تماماً وأعبر ليس فقط عن معاناة تلك اللحظة الخاصة ولكن أيضاً عن محاولة الخروج منها؛ أي أنني لم أقف مكتوف اليدين أمام  الواقع السلبي ولكنني نجحت في أن أبث فيه الحركة و الغرابة، القسوة والاقتصاد في التعبير والتفاؤل القاسي؛ وهذه جميعاً كانت  عناصر أدب المقاومة.
          لم يكن لدي في  البداية سوى هذا الدافع، مجرد قصة في ذهني أو الأفضل أن نقول إن القصة  كانت مجرد صورة في ذهني. ففي أصل كل رواية كتبتها كانت هناك صورة تدور في رأسي- لا أعرف كيف ولدت وأجد  نفسي مهموماً بها ربما لسنوات. ورويداً رويداً أجد نفسي أعمل على تطوير تلك الصورة لتصبح قصة لها بداية ونهاية، وفي الوقت ذاته أقنع نفسي بأن هذه القصة تحتوي على معنى ولكن عادةً ما كانت هاتان  العمليتان تتمان بشكل متواز  ومستقل. وبمجرد أن أبدأ الكتابة يتكشف لي كل ما كان معلقاً كما أشرت تواً. بالكتابة فقط يمضي كل شئ في ذهني إلى مكانه الصحيح.

          منذ فترة قليلة كنت أفكر في رجل انشطر طولياً إلى نصفين ، وكل نصف منهما ذهب إلى حال سبيله. هل هي قصة جندي في حرب حديثة؟ ولكن استخدام أسلوب الهجاء فيما يتعلق بهذه الحرب قد صار مستهلكاً، ورأيت أنه من الأفضل  تناول حرب من الزمن البائد، الأتراك مثلاً. وماذا عن الإصابة؟  هل تكون بسبب  سيف؟ لا، الأفضل أن تكون بسبب طلقة مدفع، وهكذا سيكون الاعتقاد أن هناك جزءاً قد دمر تماماً، ولكنه سيظهر فيما بعد. ولكن أكان لدى الأتراك مدافع؟ نعم، ليكن موضوعنا هو الحروب بين النمسا والأتراك في نهاية القرن السابع عشر، في عصر الأمير اوجينيو. وعلى أن يبقى كل شئ مبهماً إلى حد ما، فالرواية التاريخية لم تكن تهمني (بعد). إذن ينجو أحد النصفين، ويظهر النصف الآخر في وقت لاحق. ولكن كيف يمكن التمييز بينهما؟ إن طريقة التأثير الأكيدة هي أن يكون هناك نصف طيب ونصف شرير، تضاد على طريقة ستيفنسون مثل دكتور جيكل ومستر هايد، أو الأخوين  في رواية سيد بالانتراى. وهكذا نظمت القصة نفسها على أساس شكل هندسي دقيق. وكان يمكن للنقاد أن يمضوا  في الطريق الخاطئ ويقولوا إن ما كان في ذهني هو عرض فكرة الخير والشر. لا لم يكن هذا ما أريده مطلقاً، بل أنني لم أفكر لحظة واحدة في فكرة الخير والشر. فكما يفعل الرسام عندما يستخدم التضاد في الألوان ليظهر شكل ما، هكذا استخدمت أنا تضاداً روائياً واضحاً لأظهر ما يهمني أي الانقسام.

          فالإنسان المعاصر ممزق، منقسم، غير مكتمل، بل عدو لنفسه، يصفه ماركس بأنه "مغترب" وفرويد بأنه "مقمع"، فإن حالة التناغم القديمة قد ولت، وبدأنا نتطلع إلي  نوع جديد من التكامل. تلك هي النواة الأيديولوجية الأخلاقية التي كنت أريد اضافتها بوعي للقصة، ولكن بدلاً من أن أعمل على تعميقها على الصعيد الفلسفيّ، فضلت أن أعطي للرواية هيكلاً يعمل عمل آلة متكاملة وأن أعطيها جسداً ودماً من التراكيب الخيالية الغنائية. 
ولم أستطع أن أحمّل البطل وحده  نموذج أنماط تمزق الإنسان المعاصر، إذ انه كان يكفيه أن يمضي قدماً بأحداث القصة وآليتها، لذلك وزعت هذا التمزق على بعض الشخصيات المحيطة به. كانت إحدى  تلك الشخصيات هي شخصية المعلم بيتروكيودو النجار والتي يمكن أن أقول إنها الشخصية الوحيدة التي لها دور أخلاقي خالص وبسيط.  وهذا الشخص يصنع مشانق وأدوات تعذيب دقيقة ومتطورة محاولاً ألا يفكر في مجال استخدامها ، هكذا مثلما يفعل العالم أو التقني اليوم عندما يصنع قنابل ذرية أو حتى عادية دون أن  يعرف في أي مجتمع ستستخدم،  ويظل التزامه الوحيد هو "إجادة صنعته" غير  كاف لتهدئة ضميره. وموضوع العالم "الصرف" المحروم (أو غير الحر) من التكامل مع الإنسانية الحية يظهر أيضاً في شخصية الدكتور تريلاوني، والتي ظهرت بطريقة مختلفة تماماً وكأنها صورة مصغرة لإزدواجية  ستيفسن، تستدعيها كل  الدلالات الأخرى لهذا المناخ،  واكتسبت بذلك نوعاً من الاستقلالية النفسية.

          و تنتمي "مجموعتا" مرضى الجذام والهوغونيين إلى شكل من أشكال الخيال أكثر تعقيداً، فهما تشكلان خلفية غنائية خيالية للرواية قد تكون مرتبطة بالتقاليد التاريخية القديمة  المحلية لقرى مرضى الجذام (في أرض ليجوريا أو بروفينسا، ومجموعات الهوغونيين الهاربين من فرنسا في كونييزي، وذلك بعد إلغاء قرار "كانت" أو قبل ذلك أيضاً، بعد ليلة القديس بارتولوميو) . فلقد ظهر مرضى الجذام ليمثلوا لي اللذة، وعدم المسئولية والسقوط السعيد، والعلاقة بين النزعة الجمالية والمرض، أي بطريقة ما مذهب الإنحطاط  الفني والأدبي المعاصر، ليس فقط  ولكن أيضاً ذلك المذهب الموجود  منذ الأزل (اركاديا). ويمثل الهوغونيون  الانقسام المضاد، الأخلاقيات، ولكن بوصفهم صورة  لشئ أكثر تعقيداً حيث  يدخل في ذلك نوع من السر العائلي (افتراض أصل اسم عائلتي لم يتأكد حتى الآن)؛ فهو تصوير  (هجائي وملئ بالإعجاب في الوقت ذاته) للأصول البروتستانتية للرأسمالية كما وصفها ماكس  فيبر، ووبالتالي  لأي مجتمع آخر مبني على الأخلاقيات الفعّالة؛ وهو  استدعاء مفعم  بالتعاطف وخال من الهجاء  لأخلاقيات دينية بلا دين.
          ويبدو لي أن كل الشخصيات الأخرى لرواية الفسكونت المشطور لا معنى لها سوى وظيفتها في الحبكة الروائية. بعضها خرج بصورة جيدة بالفعل - أي اكتسب حياة حقيقية - مثل المربية سيباستيانا، والفسكونت ايولفو أيضاً بالرغم من ظهوره الخاطف. أما عن شخصية الفتاة (الراعية باميلا) فقد كانت  مجرد نموذج للواقعية الأنثوية في مقابل لا إنسانية المشطور.    

وماذا عن مداردو المشطور؟ لقد قلت إنه كان يتمتع بحرية أقل من الآخرين؟ فمسيرته محددة مسبقاً لتتفق مع الحبكة الروائية. ولكن بالرغم من كونه محدوداً هكذا إلا إنه نجح في أن يظهر غموضاً عميقاً يتوافق مع شئ ما لم يكن قد  اتضح بعد في ذهن المؤلف. كان هدفي المؤكد هو محاربة كل انقسامات الإنسان، والبحث عن الإنسان الكامل. ولكن الواقع أن مداردو الكامل الذي ظهر في البداية، بعدم حسمه، لم تكن له شخصية أو شكل، أما مداردو الذي أعيد اكتماله في النهاية فلم نعرف عنه شيئاّ؛ ذلك أن الذي عاش في الرواية هو فقط مداردو عندما كان منقسماً على ذاته. والنصفان، هاتان الصورتان المتضادتان لما هو غير إنساني، صارا أكثر إنسانية فلقد كانا يحركان علاقة متضادة، النصف الشرير التعس يثير الشفقة، والنصف الطيب الأكثر تألماً يثير السخرية، وكنت أجعل كل منهما يتغنى بمديح الانقسام وكأنه أفضل طريقة للوجود،  ويصب اللعنات  على "الكمال البليد"، وذلك من خلال وجهتي النظر المتضادتين.  أيكون السبب هو أن الرواية ولدت في عصر من الإنقسامات فأصبحت تمثل على الرغم منها الضمير الممزق؟ أو بالأحرى لأن التكامل الإنساني الحقيقي لا يكون مجرد سراب لكمال أو كونية غير محددان  أو متاحان، وإنما يكون في البحث المتعمق المدقق فيما نحن عليه طبيعياً وتاريخياً  و في ذلك الاختيار الإرادي الشخصي، أو لبناء ذات أو تخصص، إو  مجرد اختيار أسلوب أو مجموعة من الدلالات الشخصية الداخلية والتنازلات الفاعلة، التي يجب أن نستكملها حتى النهاية؟! كانت الرواية تدعوني من جديد بقوة دفعها الداخلية التلقائية لما كان وما سيظل دائماً موضوعي الروائي؛ موضوع شخص يفرض على نفسه بكامل إرادته قاعدة صعبة ويتتبعها بالرغم من كل العواقب ، لأنه دون هذه القاعدة لن يحقق ذاته لا من أجل  نفسه أو الآخرين.
ترجمة: د. أماني فوزي حبشي
مراجعة: د. محب سعد 

Tuesday 8 August 2017

اذهب حيث يقودك قلبك - سوزانا تامارو - التقديم

تقديم

أثناء تجولها وحيدة في منزلها، ومع هبوب الرياح الباردة في الخارج تعلن عن بداية الخريف والذي بدأ تدريجيًا يطفىء ألوان الحديقة الزاهية، تقرر سيدة مسنة، نظرًا لاصابتها بمرض خطير، أن تكتب خطابًا طويلاً إلى حفيدتها التي تعيش في أمريكا للدراسة، خطاب تكتبه كيوميات، ولكنه يحتوي في مضمونه ليس فقط على سيرتها الذاتية، ولكن عن خلاصة خبرتها ورؤيتها للحياة.
إنها محاولة لقيل ما لم يقال، محاولة لتفسير الغموض والتوتر في العلاقة، خطاب حب تحاول من خلاله إعادة أواصر علاقة انهارت وتسبب في تدهورها صراع الاجيال وصعوبة التفاهم والتقارب بين عقلية في الثمانين واخرى بدأت لتوها سن المراهقة.
وهكذا بالتمرد على قانون الطبقة البرجوازية الثابت، والذي يفرض كثير من الحواجز في العلاقات، ويفرض على الاشخاص اخفاء الكثير من الحقائق وعدم مواجهة المشاعر، تأخذ الجدة الورقة والقلم لتقوم بأول عمل شجاع في حياتها، بأن تحب وتفتح قلبها...
"إذا كنت قد فهمت حينئذ أن أول صفات الحب هي القوة" تعترف في لحظة ما "لكانت الأحداث فد صارت بشكل  مختلف"
تحكي الجدة عن طفولتها والتربية القاسية التي عانت فيها من قمع المشاعر، سواء في منزلها أو في مدرسة الراهبات التي التحقت بها. تحكي عن طفولة اتسمت بالتحفظات والاهتمام بالمظاهر، والتي قادتها فيما بعد للزواج من رجل ممل وعادي، وكيف ادى ذلك فيما بعد إلى "علاقة صراع" بين ابنتها الوحيدة، ثم الموت المأسوي لتلك الابنة، الموت الذي تشعر أنها مسئولة عنه – وهي لا تخفي أي شيئ، حتى إن بدت في ذلك كله قاسية وعديمة الرحمة، مع نفسها قبل كل شيء.
ولكن ليس غرضها من هذا كله هو أن تفضح نفسها، ولا حتى أن تريح ضميرها؛ ولكنها بالتحدث عن صدق المشاعر وباضفائها الاسماء الحقيقية للأشياء، دون تزييف، أو تغطيتها بأخلاقيات مفتعلة، تريد الجدة، والتي عاشت أحداث قرن من التاريخ وشهدت تغييرات جذرية في العادات وانقلاب في القيم، تريد فقط أن تُذّكر حفيدتها- بكل الحب- أنه لا يوجد عدو أسوأ من أنفسنا، وما نخفيه في قلوبنا، وبأن الرحلة الوحيدة التي تستحق أن تقوم بها هي تلك التي تهدف للوصول إلى عمق ذواتنا، إلى البحث عن الصوت الأصلي الموجود داخل كل منا، والذي يحميه ويحفظه بداخله.  
يتميز هذا الخطاب الطويل بالقدرة على تأريخ المشاعر بعذوبة، فتصف شعورها بالتقدم في العمر بالعبارة التالية: إن فكرة القدر تأتي مع التقدم في السن، عندما يكون المرء شابًا لا يفكر في القدر، فكل شيء يحدث يراه ثمرًا لإرادته الخاصة.. إن اكتشاف "القدر" يحدث في سن الأربعين، عندئذ تبدئين في إدراك أن الاشياء لا تتوقف عليك أنت فقط... وحتى ترى القدر بحقيقته الكاملة يجب أن تمر بضعة أعوام أخرى. وفي سن السبعين، عندما ترين شيئًا لم تريه من قبل: إن الطريق الذي اجتزته لم يكن طريقًا مستقيمًا ولكنه مليء بالمفترقات، في كل خطوة كان هناك سهم يشير إلى اتجاه مختلف، ومن هنا يبدًا طريق ومن هناك طريق... ربما ابتلعتك إحدى تلك الطرق المنحرفة دون أن تدركي، ولم ترى الأخرى وتلك التي اهملتها لم تعرفي إلى أين كان يمكن أن تقودك، إذا كان ذلك المكان سيكون أفضل أم أسوأ، وبالرغم من أنك لا تعرفين هذا إلا أنك مع ذلك تندمين. فلقد كان يمكنك عمل شيء ولم تفعليه، لقد عدت إلى الوراء بدلاً من التقدم إلى الأمام.
الحوار المفتقد بين الأجيال.. المشاعر التي تراود المرء في مراحل حياته المختلفة وكيف يمكن التعرف إليها... المحاولة الصادقة للبحث عن ذلك العمق الذي يمكن أن يقود حياة كل منا... أحداث الحياة المختلفة التي تعصف بنا ونحن نحاول أن نتحسس طريقنا... محاولة كل منا العثور على طريقه في الحياة الاجتماعية والتخبط بين البحث عن التفوق العلمي والتمسك بالقيم الإنسانية وبين أن يلهث المرء خلف شهواته ومتعته في النظر كيف يؤثر ذلك فيمن حوله... العلاقات الإنسانية التي أصبحت جافة جدًا وخالية من كل طرق التعبير الإنسانية والتي تؤثر فيما بعد على تكوين الشخصية...
تلك هي الأفكار التي تدعونا الكاتبة سوزانا تامارو للتأمل فيها من خلال الرواية مستخدمة لغة بسيطة ومشاعر عميقة
هل نحن أمام نصًا نسويًا إذن؟
منذ السطور الأولى يتضح لنا هذا الأمر، فالرواية التي تحكي حياة الجدة وما تعرضت له من قمع، مرتبط إلى حد كبير بطبقتها الاجتماعية، ويُنفذ على يد امرأة أخرى، أمها أحيانًا والراهبة في المدرسة، احيان أخرى، إلى معاناة من نوع آخر سواء مع الأب أو الزوج، تجذبنا معها في عالمها الخاص لتنقل إلينا كل تلك المشاعر والرؤية الأنثويه الخاصة بحياتها، ليس فقط بل وأيضًا لمن حولها والأجيال التي تلت جيلها.
عن رؤية مثل هذه يمكن أن نستعير وصف الرائعة لطيفة الزيات لأعمالها الابداعية التي تحمل بصمتها كأمرأة فتقول:
"أما أعمالي الابداعية فتحمل بصمتي كأمرأة، كهذا النتاج التاريخي الاجتماعي لمجتمع معين في فترة من فترات تطوره، وتحمل بصمتي كهذه المرأة الفريدة التي هي أنا. في الأعمال الإبداعية أكتشف رؤيتي الحياة وأبلورها، أخلع أقنعتي، فلا أبقي شيئًا سوى وجه الحقيقة العاري. أبدد أوهامي عن الذات ستارًا بعد ستار، أعلو على توجساتي ومخاوفي، أحس، أجرؤ، أنطق صدقًا، ولو على ذاتي، أكون المرأة الخانقة المقدامة، الضعيفة القوية، الهشة الصلبة، المتمزقة بين العقل والوجدان، التي هي أنا، كتاباتي الابداعية تعرفني وتعرفني" (من شهادة مبدعة، أدب ونقد، نوفمبر 1996)


ولدت سوزانا تامارو في تريستى عام 1957. درست في المركز التجريبي للسينما في روما. ألفت العديد من الروايات منها رأس بين السحب، واذهب حيث يقودك قلبك الذي نال نجاجًا عالميًا، وفي عام 2003 قامت بأول تجربة لها في الاخراج فيلم "في حبي"، عن رواية "لا وجود للجحيم". من رواياتها الأخرى: عزيزتي ماتيلدا، اجبني، ورواية الاطفال: القلب السمين، وهي روايات ترجمت للعديد من اللغات.


أماني فوزي حبشي

Sunday 6 August 2017

المترجم في ميدان المعركة - رواية فارس بلا وجود - إيتالو كالفينو

وكان المثير لي كمترجمة في الرواية "فارس بلا وجود"، هو وجود صورة للمترجم في الحروب في ذلك الوقت، ذلك الذي نظرًا لأنه يعرف كيف تقال الأشياء بلغتين مختلفتين، يتعرض للمخاطر، وللقتل أحيانًا كثيرة،  وهي صورة  تمثل اليوم – إلى حد كبير-  صورة المترجمين في مناطق الصراع والحروب الحالية، في العراق وافغانستان، صورة أصبح لها أهميتها في الوقت الحالي حتى أفرد لها دارسو الترجمة[1] والأدباء[2]  صفحات، بل ونالت اهتمامًا أيضًا من أهل هوليوود[3]  يقول كالفينو عن المترجم في ميدان المعركة:
وهنا كانت درجة السباب وقوته حاسمة، لأنه حسب نوع الإهانة، مميتة كانت أو دموية، أو غير محتملة، متوسطة أو خفيفة، كان الأمر يتطلب ردود فعل مختلفة، وأيضًا يتبعها أحقاد لا يمكن إصلاحها، وتتوارثها الأجيال التالية. لذلك كان غاية في الأهمية  أن يفهم كل طرف ما يقوله الطرف الآخر، وهو الأمر الذي لم يكن سهلاً بين المغاربة والمسيحيين، وبوجود لغات مغربية ومسيحية مختلفة فيما بينها، وإذا لحقك سباب لا يمكنك فك شفرته، ماذا يمكنك أن تفعل؟ كان عليك إذن الاحتفاظ به، وربما تظل ملطخًا به طوال حياتك. ولذلك، ففي تلك المرحلة من القتال كان يتدخل المترجمون. كانت فرقة سريعة ترتدي درعًا خفيفة وتمتطي خيولاً خاصة صغيرة الحجم، وكانت تدور في الجوار حول المحاربين، كانوا يلتقطون على الفور السباب ويترجمونه إلى لغة المستمع.
وبالنسبة إلى أولئك المترجمين كان هناك اتفاق ضمني بين الطرفين على عدم المساس بهم، بالإضافة إلى أنهم كانوا يسيرون بسرعة شديدة، وفي تلك الفوضى لم يكن من السهل قتل محارب ثقيل يمتطي جوادًا منتفخًا يسير بصعوبة لما وضعوه فوقه من دروع كثيرة، فلنتخيل إذن وضع هؤلاء الذين يقفزون بحركاتهم السريعة. ولكن كما هو معروف فالحرب هي الحرب، وكل فترة تترك ضحاياها. أما هم، ولأنهم يعرفون كيف تٌقال "يا ابن العاهرة" بلغتين، كان لا بد أن يكون لهم نصيبهم في المخاطرة.

أماني فوزي حبشي 




[1] ظهر أخيرًا باللغة الإنجليزية العديد من الكتب االتي تتناول المترجم في خضم الصراع ومنها كتاب Baker Mona, Translation and Conflict, Rougledge, 2006
[2] منها رواية المترجم للراوية ليلى أبو العلا Aboulela, Leila (1999), The Translator, Edinburgh: Polygon
[3] فيلم The Interpreter    عرض عام 2004 و قامت ببطولته نيكول كيدمان وشون بين، ويظهر في الفيلم كيفية اقحام مترجمي الأمم المتحدة أحيانًا في الصراع السياسي.  


Friday 4 August 2017

مقدمة لم تُنشر لترجمة رواية بندول فوكو - أومبرتو إيكو

تقديم

إن تقديم ترجمة لرواية بندول فوكو لأومبرتو إيكو عمل جد عسير، فالكتاب ليس مجرد رواية بوليسية فحسب، فنحن أمام عدة كتب في كتاب، عدة كتب تستعرض معارف متنوعة من ثقافات مختلفة. فهو ينطلق من أوروبا العصور الوسطى لينتقل بنا إلى البرازيل حيث الديانات الأفريقية ثم إلى الشرق الأوسط حيث الحروب الصليبية وجماعة الحشاشين. 
تدور أحداث الرواية في إحدى دور النشر، خلال مدة تصل إلى عشرين عامًا، فيها يتناول المؤلف ليس فقط  الاحداث الشخصية والمعرفية للمحررين (أبطال الرواية) فحسب، ولكنه يتعرَّض أيضًا للتغيرات السياسية والثقافية التى حدثت في إيطاليا فى اللحظة التاريخية التي تدور فيها الرواية، مع عودة من حين لآخر لاستعراض جزء من التاريخ الإيطالي في فترة أفول الفاشية. تستعرض الرواية في اطار بوليسي رغبة ثلاثة من المحررين في تأليف خطة تأسيس العالم، خطة تبرر أحداث التاريخ، وتبرر وجود البشر على سطح الأرض، وتبرر أيضًا وجودهم. تقودهم الخطة لمواجهات سواء على المستوى الخارجي أو الداخلي، مواجهات مع جماعات منحرفة تبحث لنفسها عن غرض، ومواجهة مع النفس لفحص أسباب تلك الرغبة في ابتداع الخطة. تحتوي الرواية على عديد من الاسماء التاريخية والحركات الدينية والسياسية، والتي يتضح وجود تفسير لها في سياق الرواية، ولذلك فضلت أن أترك الرواية بلا هوامش لكي لا يفقد القاريء متعة البحث والتي تميز قراءة عمل مركب مثل هذا يحتوي على معلومات لا نهاية لها عن العوالم الغامضة والسفلية، وعن الافكار التي مرت على الانسان في محاولاته المستمرة لاكتشاف بداية كل شيء بطرقٍ ووسائل مختلفة، أحياناً ما تكون منحرفة.

الرواي هو أحد المحررين الثلاثة، ذلك المتخصص في تاريخ فرسان المعبد،  والذي يحكي أحداث الرواية في فترة يومين فقط، فيهما يستعيد العشرين سنة الماضية، يتقاطع مع تلك الاحداث ما كتبه بيلبو- زميله المحرر الآخر- من ملفاتٍ يسجل فيها أحداث حقيقية مرت في طفولته، أو أحداثًا تخيلية خطرت بباله بناء على الخطة. تزودنا الرواية بتاريخ حركة فرسان المعبد، والتي كانت  قد بدأت في الأراضي المقدسة بنية الدفاع عن الحجاج في تلك الفترة، والتي نظرًا لأنها أصبحت فيما بعد من أقوى وأغنى الحركات الدينية، وبالتالي كانت تشكل تهديدًا على الملكية، عمل الملك فيليب الرابع على محاكمتهم، واتهامهم بالهرطقة والقائهم في المحارق. لم يستطع من قرأ تاريخهم الاقتناع بسهولة اعترافهم واستسلامهم للموت، فنسجت حولهم الكثير من الاساطير، والتي تعلقت بمؤامرة كونية خططوا لها، وكنز خبأوه، وبالطبع الكأس المقدس ذا القوى الخارقة الذي بالتأكيد كانوا قد حصلوا عليه وخبأوه.    
وللرواية أهميتها الخاصة فى اللحظة الحاضرة أيضًا، فبالرغم من أنها لم تحظ بالنجاح نفسه الذي حظيت به "اسم الوردة" إلا أنها عادت مرة أخرى للبروز على السطح في أعقاب نجاح رواية دان براون "شفرة دافينشي" والتي بدا مؤلفها متأثرًا بكثير من الأفكار التي تناولها إيكو عام 1988 في بندول فوكو. الشيء الطريف أنه عندما سُئل إيكو عن رأيه في شفرة دافينشي قال: لقد اضطررت لقرائته لأن الكثيرين سألوني عنه. إليهم أجيب بأن دان براون هو أحد شخصيات روايتي "بندول فوكو" والتي فيها أتناول الشخصيات التي تؤمن بحثالة العبادات السرية. وعندما سألته المحاورة: ولكن يبدو أنك أيضًا تهتم بالقبالاة والسيمياء، وبعض الممارسات التي وصفتها في كتابك. أجابها إيكو: لا، في البندول قدمت تلك الشخصيات بطريقة غرائبية. لذلك أرى أن دان براون أحد تلك الشخصيات التي ابدعتها في الرواية[1].

يتناول إيكو في الرواية فترة ظهور الحاسوب كأداة جديدة للكتابة، والتي احتلت مكان الورقة والقلم لدى كثير من المبدعين، ودوره في التحرير، وسهولة التعامل معه، من خلال شخصية بيلبو، الذي أطلق اسم أبو العافية على حاسوبه، وكان يعتمد عليه في تخزين أسراره وأفكاره، بل وفي اختلاق أجزاء من الخطة.

أثناء الترجمة، كما هي العادة، قابلتني العديد من الصعوبات، أولها اعتماد المؤلف على كثير من الإحالات الأدبية، والتي لابد للقارىء أن يكون على دراية بها ليفهم ما يرمي إليه المؤلف. عادة ما تفقد تلك الإحالات (إذا كانت تعتمد على  استخدامها الحرفي باللغة الإيطالية)  أثناء عملية النقل إلى لغة أخرى، أو أن يحاول المترجم، البحث عن السياق المقابل في لغته التي تحمل معنى مشابه، قريب من المعنى الذي يرغب المؤلف الوصول إليه في اللغة الأصلية، وقد حاولت ذلك في العديد من المقاطع بالفعل أو أن أشير بطريقة ما إلى ما يقصده المؤلف في متن الترجمة. إلا أنه لابد من الاعتراف بصعوبة الاحتفاظ بكل الإحالات الأدبية الحرفية عند النقل إلى لغة أخرى. وقد حاور الكثيرون إيكو بهذا الشأن، بل واتهموه بأنه لا يهتم كثيرًا بترجمة كتبه إلى لغات أخرى لما تحويه من كثير من تلك الإحالات، إلا أنه كان يجيب بأن الترجمة، والتي يهتم بها هو شخصيًا، وكتب كثير من الدراسات عنها، هي عملية تفاوض " من باب انطوائها على التضحية بشيء ما، للحصول على شيء آخر وسط الفوارق المتفاوتة بين الأنظمة اللغوية"[2]
 تعتمد الرواية في إطارها وأفكارها على القبالاة، وهى مجموعة التفسيرات والتاويلات الباطنية والصوفية عند اليهود. والاسم مشتق من كلمة عبرية تفيد معنى التواتر او القبول او التقبل او ماتلقاه المرء عن السلف اى التقاليد والتراث وكان يقصد بالكلمة اصلا تراث اليهود الشفوى المتناقل فيما يعرف باسم الشريعة الشفوية وقد اطلق العارفون باسرار القبالاة على انفسهم لقب العارفون بالفيض الربانى، وكان القباليون يرون ان معرفة أسرار الكون توجد فى اسفار موسى الخمسة وهم يرفضون تفسير الفلاسفة المجازى او التفسير الحرفى فقد كانوا ينطلقون من مفهوم غنوصى باطنى يفضى الى معرفة اسرار الكون و أسرار نصوص العهد القديم وحسب رايهم ان التوراة هى خطة الإله للخلق كله وينبغى دراسة كل كلمة فيها لأنها تمثل رمزا وكل علامة او نقطة فيها تحوى سردا داخليا. وسنجد كيف أن التجليات النورانية العشرة للقبالاة تؤطر أحداث  الرواية، والتي يهتم المؤلف بشرح معنى كل منها في بداية أو نهاية كل جزء من أجزاء الرواية العشر، وكيف أن العبث ب"قدسية" الكلمة، والتي تعتمد عليها القبالاة، في رأي أحد أبطال الرواية، وترتيب الأحرف يمكن أن يؤدي إلى كوارث ويقضي على حياة من يعبث بها.  وقد استعنت لترجمة هذه المصطلحات بموسوعة الاستاذ الدكتور عبد الوهاب المسيري: اليهود واليهودية والصهيونية، والتي كانت مرجعًا أساسيًا في ترجمة كل ما تعلق بهذا الموضوع.
تنقلنا الرواية أيضًا للعالم السري لدور النشر، عمل المحررين، وطرق النشر والتوزيع، عالم المؤلفين الجدد وطرق التعامل معهم. العالم الخلفي للنشر، عالم خداع الذات، وخداع من لا موهبة له ويرغب في النشر. ويتضح من الرواية وجود عالم خاص خفي ربما لا يعرف عنه أحد الكثير. ذلك العالم الذي تخلقه دور النشر،  حيث تخترع دور النشر لهذا الغرض الموسوعات، بل والجوائز الأدبية لخداع من يرغبون في النشر وهم لا يملكون أية موهبة.
يبقى التنويه بأن المؤلف بدأ كل فصل من فصول الرواية باستشهاد من كتب متنوعة بلغات متنوعة،  والتي كان لابد لترجمة اللاتينية والاسبانية والبرتغالية منها الاستعانة ببعض الاصدقاء، والذين أود أن أشكرهم من خلال تمهيدي هذا: لويجي ماريا موزاتي، ماريانتونيتا نانيا، جينارو جيرفاتزيو.



Thursday 3 August 2017

مخرج عبقرى أم طفل يرفض الدخول في عالم الكبار؟ ستيفن سبيلبرج



ظاهرة استرعت انتباه الكثيرين …. كتب عنه الكثيرون في جميع أنحاء العالم … يقولون عنه: عينة لموضة هوليوودية جديدة، موضة الإنتاج السوبر بواسطة التكنولوجيا عالية المستوى"

ولكن هل هو كذلك بالفعل، الكثيرون يحاولون فهم هذه الظاهرة الهوليوودية، وهناك من يرى أن ستيفن سببيلبرج ليس سوى طفل يحلم ويؤمن "أن الحلم يحررنا من يأسنا"، طفل يستمتع بشقاوة الأطفال ويظهرها في أصعب اللقطات وأحرج اللحظات (فيلم المبارزة 1972)، طفل عنيد استحواذي يرفض الشعور بالنضج، يبحث عن طفولته، عن لحظة في الوجود لا يمكن استعادتها في الواقع (فيلم اكسبريس شوجرلاند 1974) .

ليس هذا فقط فهو أيضاً يؤمن بتلك "النعمة" التي عبر عنها مخرجه المحبوب تروفو، تلك النعمة التي أحياناً ما تتحكم في مصير الأطفال (الفك المفترس 1975)، إنه ذلك الطفل الذي يؤمن بوجود لقاءات مع الكائنات الفضائية، بل يؤمن أن تلك الكائنات ستفضل مقابلة الأطفال (لقاءات قريبة من النوع الثالث). إنه طفل تبهره الطائرات ويحلم بالطيران والتحليق في الأفق، ليس هذا فقط بل النظر من أعلى لرؤية الفوضى كشيء ممتع مثير للضحك (فيلم 1941 إنتاج 1979).

بل هو يستمتع بالرسوم المتحركة، ويستمتع بتحريك الشخصيات الحقيقية والأحداث كما يحدث عادة في مغامرات الكارتون (غزاة الكنز المفقود 1980).

ولكن الطفل يتقدم في الإخراج وينجح وتصبح له الحرية أن "يلعب" كما يشاء فهو نجم الشباك، فأنطلق بخياله وحاول أن يحقق الحدوتة التي طالما حلم بها، أن يكون الطفل هو بطل هذا الحلم، مع كائن فضائي رائع ورقيق، يقف بجوار أصدقاءه الأطفال عندما يهاجمهم الكبار، هذا الطفل يؤمن بأن الفوضى لا تأتي من الصغار بل أن دخول الكبار إلي عالم الأطفال هو الذي يسبب الفوضى (فيلم ET  1982).  إنه ذلك الرجل  الذي يؤمن بقدرة الحلم (أركل العلبة 1983). بل هو الذي أحياناً ما يخرج أفلاماً لا يستمتع بها سوى طفل في السابعة من عمره (انديانا جونز والمعبد الملعون 1984).

ولكن يفاجئ سبيلبرج الطفل الجميع سنة 1986 عندما يخرج فيلماً غير متوقعاً (اللون القرمزي)، فيلم أسود تماماً، مؤلماً، إلا أنه حتى في هذا الفيلم قد قدم ET  الأسود الخاص به، مميزاً إياه بتلميحات طفولية، ولكن يبدو أن الطفل يبدأ إدراك معنى فقدان البراءة، ومعنى الخوف واليأس (إمبراطورية الشمس 1987) ولكنه لا يفقد الولع للطيران، رمز الحرية ، بل يؤمن أنه لكي تحصل على حريتك يجب أن تعطي للآخرين حريتهم، ولكي تربح جمهوراً يجب أن تتركه حراً لكي يتخيل، لأن يحلم ويختار انفعالاته الخاصة وخياله الخاص (دائماً 1988)، بل هو الابن المهمل الذي يحتاج لوجود أباه خلفه ليخبره أن الإيمان هو السبيل الوحيد للنجاة من الموت (انديانا جونز والحرب الصليبية الأخيرة 1989).

وأخيراً يحقق الطفل حلمه القديم للتحليق في السماء مع جنيته الصغيرة ليعود من حيث أتى، من جزيرة بلا وجود،  حيث يستطيع أن يعود طفلاً إلى الأبد (كابتن هوك 1992)، طفلاً يخشى الكبار وعالمهم الذي يمكن أن يوقع به في كوارث لا يمكنه فهمها (حديقة الدايناصورات 1993).
ولكن نظراً لأنه طفل يعيش في عالم، ليس فقط واقعياً ولكنه أيضاً قاسياً، فهو يمكنه أيضاً أن يسقط فريسة للحقيقة مثله مثل أي شخص آخر، ففي الحياة الحقيقية لا يوجد فارق بين الكبار والصغار؛ جميعهم يمكن أن يصبحوا متوحشين، وجميعهم يمكن أن يسقطوا ضحايا (قائمة شندلر 1994).

هذا ما يختم به المؤلف الإيطالي والناقد وأستاذ الأدب الأنجلو أمريكاني فرانكو لابوللا كتابه "ستيفن سبيلبرج، ترجمته أماني فوزي حبشي وقدمه الأستاذ الدكتور يحيى عزمي وأصدرته وحدة الإصدارات في أكاديمية الفنون