Thursday 13 September 2018

الجبال الثمانية - قصة صداقة


تتناول الرواية حياة أسرة بسيطة ارتحلت من موطنها الجبلي، في ظروف لن نعرفها إلا في نهاية الرواية، لتنتقل لتعيش في مدينة ميلانو، وكيف أثر ذلك على سلوكيات ومزاج الأبوين، حتى عثرا على ملاذ لهما من خلال قضاء العطلات الصيفية في قرية جبلية أخرى جديدة، تبعدهما أكثر عن موطنهما الأصلي، ولكنها تعيد الأب، بصفة خاصة، لهوايته الأولى المحببة، وهي تسلق الجبال. وهناك يتعرف الابن على الجبل، وعلى الصداقة أيضًا. في القرية يبدأ الابن علاقة صداقة فريدة من نوعها، مع صبي يعيش في القرية ولا يغادرها قط، يرعى الأبقار ويعيش في مكان هو أصغر من فيه، تحيط به الحطام من كل جهة، في قرية ليس لدى من يسكنها تطلعات لأي تغيير، ولا حتى للمستقبل. 


 يأخذنا كونيتّي معه فوق جبال عالية، نشعر فوقها معه بالدوار والخوف في لحظات كثيرة، والنشوى وشجون الذكريات وذلك من خلال الأحداث التي يعيشها أبطال الرواية. نتعلم أكثر منه عن الجبال، وعن كونها ليست فقط مكان القمم والجليد، الملاجئ الجبلية والوعول، ولكنها أيضًا أسلوب حياة: متى يترك المرء مسافة، متى يتراجع، متى يتقدم المسير ومتى يلتزم الصمت. ولا يكتفي كونيتّي بالألب، ولكنه يصحبنا معه أيضًا للتعرف على جبال الهيمالايا، وعلى حكمة شعبها. 


ففي هذه الرواية، البسيطة والعميقة في آن واحد، يقدم لنا كونيتّي تلك التفاصيل الصغيرة، تفاصيل صداقة امتدت لثلاثين عامًا بين من عاش في المدينة وتجول حول العالم ومن لم يتحرك من قريته الجبلية الصغيرة، ومعها تفاصيل حكايات أخرى، وصداقات أخرى. 


وُلد "باولو كونيتّي" في ميلانو عام 1978، بدأ أول تجربة للكتابة له وهو في سن الثامنة عشر، درس الرياضيات وكان يهوى تسلق الجبال وقام بعد التخرج من مدرسة السينما في ميلانو بالعمل على إخراج أفلام وثائقية اجتماعية وسياسية وأدبية. 

بدأ كروائي عام 2004 بمجموعة قصصية "كتيب الفتيات الناجحات" ثم عام 2007 مجموعة قصصية ثانية "شيء صغير على وشك الانفجار"، و"الفتى البري" عام 2013. وقام أيضًا بتأليف العديد من الأفلام الوثائقية منها سلسلة من تسعة أجزاء عن الأدب الأمريكي. وفاز بعدة جوائز أدبية عن أعماله. 

ألف "الجبال الثمانية" عام 2016، التي فازت بجائزة "ستريجا  2017، وهي من أهم الجوائز الأدبية الإيطالية، حصل عليها من قبل كل من: أومبرتو إيكو، دينو بوتزاتي، ناتاليا جينزبورج، مورافيا وبافيزي وغيرهم. ترجمت الرواية إلى أكثر من 30 لغة. 


Friday 7 September 2018

الإيطالي إيتالو كالفينو وأدب المقاومة: معنى "ما" للحياة

إنضم إيتالو كالفينو لأحزاب سياسية شيوعية بعد الحرب في محاولة لتحقيق حلم الديمقراطية الحقيقية في إيطاليا، ولكن أدرك أنه لا يجب وضع الأدب في المرتبة الثانية من السياسية حيث تفشل السياسة في معظم الأوقات في إنجاز أهدافها، في حين أن الأدب ينجح على الأقل في إنجاز شيء ما، فعاد مرة أخرى لوضع الكتابة في أولوية أهدافه.

ما كان يدفع المؤلّف الشاب وقتها على الكتابة لم تكن الرغبة في التوثيق، ولكنها كانت الرغبة في "التعبير"، "التعبير عن أنفسنا وعن المذاق المر للحياة، الذي شعرنا به آنذاك"، هذا ما كتبه إيتالو كالفينو في مقدّمته للطبعة الجديدة المنقّحة  (1964) لأول رواية له عن المقاومة "مدق أعشاش العنكبوت" والتي نُشرت عام 1947، أي بعد عامين من اشتراكه هو شخصياً في صفوف المقاومة لمدة عام، قبل الانتصار ونهاية الحرب
وعن خبرته تلك وعلاقتها بإبداعه الأدبي يقول:  في تلك الفترة أردنا التعبير عن المذاق المرّ للحياة. كنا نكتب عن شخصيات قابلناها، مناظر رأيناها، عن طلقات الرصاص والأوضاع السياسية، كانت تعلو في رواياتنا الأصوات العامية والسباب، الأغاني وأناشيد النضال، كنا نعرف وقتها أن جميعها تكّون ألوان اللوحة النهائية، كنا نُدرك أن الأهم في الموسيقى هو اللحن وليست النوت الموسيقية. كانت تلك هي نزعة "الواقعية الجديدة" بالنسبة لنا
ولد إيتالو كالفينو فى سانتياغو لاس فيغاس (كوبا) عام 1923، وقضى مرحلة شبابه في مدينة سان ريمو بشمال إيطاليا أثناء اشتراكه في حرب تحرير إيطاليا وعمليات المقاومة بها ضد الفاشية والنازية. كانت عائلة مثقّفة لم يكن لديها أية انتماءات سياسية. في نهاية 43 عندما كان عُمر إيتالو كالفينو حوالى 20 سنة، قرّر الاشتراك في المقاومة، فصعد إلى الجبل وانضمّ لإحدى الجماعات التي كانت تقاوم الاحتلال الألماني.

حصل كالفينو على شهادته الجامعية في الآداب من جامعة تورينو وعمل مع الكاتب الإيطالي الكبير شيرازي بافيزي في هيئة التحرير في دار نشر "إيناودي" بمدينة تورينو، ثم صار في ما بعد واحداً من كبار مستشاريها. وفي عام 1959 اشترك مع الكاتب الإيطالي إليو فيتوريني في إصدار إحدى الدوريات الإيطالية الهامة التي تناولت بالعرض والدراسة مشاكل الثقافة المعاصرة.
يُعدّ إيتالو كالفينو من أهم أدباء المقاومة الذين ظهروا في أعقاب الحرب العالمية، حيث بدأ بمجموعة قصصية "وأخيرًا يأتي الغراب"، ويقول عن خبرة كتابتها: ولسبب ما بدأت بقصص المناضلين من رجال المقاومة إذ إنها كانت تحقّق نتائج ناجحة حيث كانت مليئة بالمغامرات والحركة، وطلقات الرصاص، كانت قاسية ومرحة إلى حد ما، مثل روح هذا العصر، وتتميّز بروح "الإثارة" التي تشبه الملح في الرواية.
عن تلك المجموعة القصصية يرى النقّاد أنها كانت بمثابة سيرة ذاتية، والتي عندما أدرك هو ذلك، وأنها تكاد تكون عملية توثيق تعوق عملية الابداع الأدبي، شرع على الفور في كتابة روايته الأولى "مدق أعشاش العنكبوت" حيث بطل الرواية هو طفل "بن" ينضم للمقاومة رغم حداثة سنّه، طفل ينتمي لطبقة مهمّشة من المجتمع، ينضم لجماعة من المناضلين، يحكي كل منهم عن نفسه في أمسياتهم على الجبل.
عن تلك الفترة يقول في مقدّمته للطبعة الجديدة: إن الانفجار الأدبي لتلك الأعوام في إيطاليا، قبل أن يكون حدثاً فنياً، كان أمراً وجودياً وجماعياً. كنا قد عشنا الحرب، بالنسبة إلينا نحن الأصغر سناً - إشتركنا في المقاومة في الفترة الأخيرة - لم نشعر أن الحرب سحقتنا أو هزمتنا، ولكننا كنا منتصرين، تدفعنا دفعة الحماس التي اكتسبناها من المعركة التي انتهت لتوّها. لكنه لم يكن تفاؤلاً سهلاً، أو حماساً مجانياً، بل بالعكس، فقد وجدنا أنفسنا نواجه معنى "ما" للحياة، شيء يمكنه أن يبدأ من الصفر، قدرتنا على أن نعيش التمزّق والهزيمة، ولكن كانت النبرة التي استخدمناها هي نبرة فرح متعالٍ. أشياء كثيرة ولدت من هذا المناخ، وأيضاً شرارة قصصي الأولى وروايتي الأولى.
 إن الخروج من خبرة ما – حرب، أو حرب أهلية- لم تدخّر أحداً، أنشأت نوعاً من الاحتياج الفوري للتواصل بين الكاتب وجمهوره، الذي كان بدوره لديه قصصاً يرغب في قصّها، عاش كل واحد العديد من القصص ليحكيها، كان لكل منهم قصته الخاصة، عاشوا جميعهم حيوات غير عادية، درامية، مليئة بالمغامرة. قادت الحرية المولودة من جديد والقدرة على التحدّث الناس إلى جنون الحكي. فباتوا يحكون في القطارات التي عادت لتعمل، حاملة البشر وأجولة القمح وأوعية الزيت، كان كل مسافر يحكي للغرباء الأحداث التي مرّت به، وهكذا فعل كل من شارك في مأدبة جماعية شعبية، وفعلت كل امرأة في طابور حانوت ما، وكأن كآبة الحياة اليومية قد تحوّلت لحدث من عقود مضت، وكانوا يتحرّكون في كون من الألوان المتعدّدة من الحكايات.
من بدأ في الكتابة عندئذ وجد نفسه هكذا يتعامل مع المادة الخاصة بالراوي المجهول، للقصص التي عاشها شخصياً أو التي شهدها. كان يضيف تلك التي وصلت إليه أيضاً عن طريق الحكي، والنقل الشفاهي، من خلال إيقاع ما أو تعبير إيمائي. أثناء حرب المقاومة كانت القصص التي عاشها المرء للتوّ تتحوّل وتتشابك مع قصص تُحكى في الليل حول النيران، قصص تكتسب بالفعل أسلوباً ولغة، ويعتقد المرء أنها أصبحت قصته.
إنضم إيتالو كالفينو لأحزاب سياسية شيوعية بعد الحرب في محاولة لتحقيق حلم الديمقراطية الحقيقية في إيطاليا، ولكن أدرك أنه لا يجب وضع الأدب في المرتبة الثانية من السياسية حيث تفشل السياسة في معظم الأوقات في إنجاز أهدافها، في حين أن الأدب ينجح على الأقل في إنجاز شيء ما، فعاد مرة أخرى لوضع الكتابة في أولوية أهدافه.
ويقول في مقدمة روايته "أسلافنا" عن تلك الفترة
وهكذا حاولت أن أكتب روايات تتبع اتجاه الواقعية  الجديدة،  تحكي عن حياة الشعب في تلك الأعوام، ولكنها لم تحظ برضاي فتركتها كما هي بخط اليد في درج مكتبي. فإذا أخذت أحكي بنبرة مرحة، كان الأمر يبدو مصطنعاً؛ فالحقيقة كانت معقّدة جداً؛ وكان كل أسلوب أدبي استخدمته للتعبير عن هذا الواقع يبدو مصطنعاً. وإذا استخدمت نبرة أكثر جدّية وتأملاً كان كل شيء يتحوّل إلى اللون الرمادي، للحزن، وكنت أفقد أية بصمة تشير إليّ، أي الدليل الوحيد على أن من يكتب هو أنا وليس شخصاً آخر. لقد كان جرس الأشياء هو الذي تغيّر؛ فلقد تباعد زمن الحياة المنفلتة إبان فترة المقاومة وفترة ما بعد الحرب، ولم يعد المرء يصادف كل تلك الأنماط الغريبة التي كانت تحكي قصصاً استثنائية، أو ربما كنت ما زلت أصادفهم ولكنني لم أعد أتعرّف على نفسي من خلالهم ومن خلال قصصهم. واتخذُت الحقيقة مواقف مختلفة وطبيعية في مظهرها الخارجي، وأصبحت تلك الحقيقة حقيقة مؤسّسية، فلم يعد من السهل رؤية الطبقات الشعبية إلا من خلال المؤسّسات التي تمثّلها؛ وأصبحت أنا أيضاً منضمّاً إلى فئة لها وضعها القانوني، فئة المثقّفين في المدن الكبرى، بحللهم الرمادية وقمصانهم البيضاء. ولكني فكّرت: ما أسهل إلقاء اللوم على الظروف الخارجية، ربما لم أكن كاتباً حقيقياً، ربما كنت شخصاً كتب مثل كثيرين مأخوذاً بفترة التغييرات؛ ثم انطفأ بداخله هذا الحماس
كان كالفينو يرى، كما صرّح بذلك في مقدّمات رواياته أو في لقاءات صحفية مختلفة أن الإنسان المعاصر ممزق، منقسم، غير مكتمل، بل عدو لنفسه، بوصفه ماركس بأنه "مغترب" وفرويد بأنه "مقمع"، فإن حال التناغم القديمة قد ولّت، وبدأنا نتطلّع إلى نوع جديد من التكامل. وهكذا بدأ يسعى للوصول إلى هذا النوع من التكامل في رواياته،
وكأنه يرغب في أن يُعيد للإنسان، من خلالها، تلك الحال التي يسعى إليها

أماني فوزي حبشي