وراء كل ترجمة قمت بها قصة، أحيانًا تكون بسيطة وأحيانًا تكون مركبة.
لترجمة رواية «أصوات المساء» الصادرة عن دار الكرمة قصة تتلخص في بعض الوقفات الشخصية والمهنية، قد تبدو غير مهمة، ولكنها في الحقيقة تكشف بعدًا آخر لعمل المترجم، ذلك الذي يميزه عن «جوجل» وأجهزة الترجمة، كما أنها قد تتعارض مع الصورة الذهنية التي كونها البعض عن المترجمين بصفة عامة.
المؤلف والمترجم وسياسة دار النشر
عندما عُرضت عليَّ ترجمة هذا الكتاب، اتصلت بي المحررة في دار النشر، لتطلب مني أن أترجم جزءًا من الرواية، فوافقت. أرسلت ما ترجمته، ثم أعيد إليَّ بعد مراجعته -ببعض الملحوظات. كان أول رد فعل لي هو الضيق، ثم، مع وضع قبعة المهنية ، بدأت الرد علي كل التساؤلات التي جاءتني.
وكان أول ما لفت نظري في سياسة الدار هو الرغبة في الاحتفاظ علي أسلوب المؤلفة، علي الرغم من أن ذلك ربما لا يكون مستساغًا لدي القارئ العربي. وأدركت عندئذ أن نظرية «موت المؤلف» لن تصلح مع هذا النص، وأن عليَّ أن أحتفظ بأسلوب المؤلفة،حتي ولو بدا غريبًا بعض الشيء علي القارئ العربي. في خبراتي السابقة في الترجمة، كان العكس هو الذي يُطلب مني، ولكن لكل من أساليب الترجمة نظرياته التي لها مؤيدوها، وبالتالي، لا خطأ هنا (كما كنا نتعلم في الماضي) ولكن العبرة هي أي النظريات سأختار
وقفة نظرية عن دراسات الترجمة
(بتبسيط شديد)
بالطبع يسعي المترجم والناشر والمحرر إلي الحصول علي منتج نهائي يناسب السوق ويضمن التوزيع. وبالطبع تعتقد الأغلبية أنه كلما اقتربت لقارئ (العربي في حالتنا هذه)، يحصل الكتاب المترجَم علي نجاح أكبر وتكون فرص توزيعه أكبر. يقول مثلًا «جون درايدن»، مترجم «فيرجيليو» إلي الإنجليزية، بأنه جعله يتحدث إنجليزية كان سيتحدثها بالفعل لوكان يعيش في الزمن الحاضر. ويحدث أيضًا في الصحافة الأمريكية حاليًّا أن تتحول النصوص، وكأنها كتبت بالفعل بالإنجليزية، وأحيانًا لا يُذكر حتي اسم المترجم الذي نقلها إليها).
وهنا نجد أنفسنا نتبع المنهج الذي يدعو إليه «يوجين نايدا»، رائد نزعة التوطين في الترجمة، بينما يهاجم هذا النهج «لورنس فينوتي» حيث يري أن في التوطين اعتداء علي النص الأجنبي الأصلي وهويته، مما يؤدي إلي فقد الخصائص الثقافية الأساسية للنص المترجم.
ويري «فينوتي» أن ما يفعله المترجم عادةً، وما يمكنه أن يفعله، هو الكتابة. وبالتالي علينا أن ننظر إلي المترجم ككاتب، ليست له خصوصية التأليف التي تتنافس مع الكاتب الأصلي للعمل الأدبي، ولكنه يمتلك فن المواءمة، الذي يساعده فيه التراث المخزون في الأدبيات والمصادر التي تتميز بها اللغة المترجم إليها. إن الترجمة تنقل لنا تأويل المترجم نفسه للنص، ولذلك لابد أن يكون هذا المترجم علي دراية كافية باللغة وبالاختلافات الثقافية بين الثقافة المنقول منها وتلك المنقول إليها.
فكان الاختيار: سنتبع إذن منهج «فينوتي» مع «أصوات المساء».
المؤلفة وشخصيات الرواية
في بداية الرواية تقول «نتاليا جينزبورج»:
«جميع الشخصيات والأماكن في هذه القصة من وحي الخيال.
بعض الأماكن لا وجود لها علي أي خريطة جغرافية.
الأشخاص لا وجود لهم، بل ولم يكُن لهم أي وجود في أي بقعة من بقاع العالم.
يؤسفني جدًّا قول هذا، لأنني أحببتهم بالفعل كأنهم حقيقيون».
في البداية قرأت الفقرة وترجمتها وشعرت ربما ببعض المبالغة، فهذا أسلوب جيد من المؤلفة للتشويق. ولكني في واقع الأمر وجدت نفسي أنا أيضًا أتعاطف جدًّا مع الشخصيات، إلي حد أنني كنت أحيانًا أفكر في نهايات أخري لقصصها، أو في كلمات أخري ربما تغير من مصيرها.
تعاطفت كثيرًا مع «إلسا»، ولم أستطع أن أمنع نفسي من التعاطف في الوقت ذاته مع «تومازينو». أحببت شخصية «بالوتا» صاحب المصنع، وبساطته وحبه لعماله وزوجته، ولم أستطع كراهية «البوريللو» أيضًا. شعرت مع»جينزبورج» أنهم بالفعل حقيقيون، أنهم يمثلون شخصيات كثيرة حولي، تعرفت علي بعضهم بالفعل في مسيرة حياتي، تعرفت علي معاناتهم في أشخاص قريبين مني. تعرفت علي مَن يعشن (كشخصياتها النسائية) علي الهامش، وعلي من يحاولون طوال الوقت دفن أفكارهم والالتزام بما فرضه عليهم المجتمع، بمن يوهم نفسه بأنه يعيش بسعادة بينما هو في داخله حزين، ولا يرغب حتي في أن يعرف هذه الحقيقة.
استطاعت «جينزبورج» نقل كل هذا ببساطة شديدة، لم تتدخل في محاولة لشرح أي شيء، أو تفسيره، بل تركت الشخصيات تعبر عن هذا في تصرفاتها اليومية المعتادة. فكما يقول «كالفينو»: هي تبني الحالات النفسية التي تقدمها من خلال التصرفات، ولا تعلق ولا تحاول التفسير قط بطرق عقلية.
مع المحرر
وهنا جاءت المرحلة الأخيرة، والتي عادة ما تكون كالتالي في خبرة الترجمة: يُرسَل العمل إلي الناشر، أحيانًا يعيده إليك بعد المراجعة لتري إضافات المراجع، وبالتالي يكون علي المترجم المقارنة بين النص الذي أرسله والنص المُرسل إليه، لأن التعديلات تكون علي النص مباشرة، وتكون في غالب الأحيان نهائية بالنسبة إلي المراجع، إلا لو قرر المترجم التدخل مرة أخري بقبولها أو رفضها.
وأحيانًا، في حالة عدم وجود مراجع، تتم المراجعة اللغوية، التي لا أعرف عنها أنا، كمترجمة،شيئًا (إلا عندما أرسل أنا النص لمراجع لغة عربية قبل إرساله إلي دار النشر).
ويبقي المحرر (إذا كان له وجود) خفيًّا بالنسبة إليَّ، لا أتعامل معه تقريبًا.
لكن مع نص «أصوات المساء» كان الأمر مختلفًا، وكانت خبرة قد أثْرَتني وأسعدتني في الحقيقة. فلأول مرة أناقش ترجمتي بهذا الوضوح مع محررة (لا تشعرني بدورها أن رأيها نهائي وعليَّ أن ألتزم به)، لديها نسخة أخري من النص باللغة التي تجيدها، تقرؤها معي لنتوصل معًا إلي أفضل منتج يصل إلي القارئ، نحاول معًا قراءة النص والوصول إلي ما ترغب المؤلفة بالفعل في قوله. من هنا بدأت عملية تبادل الآراء والملفات، والتعديل والتنقيح. وفي كل مرة كنت أعيد القراءة كنت أستحسن النص أكثر، وتعلمت أن المحرر الذي يعمل بمهنية ويحب عمله يضيف كثيرًا إلي المترجم وإلي عمله.
ربما لا يري القارئ من الترجمة سوي القشرة الخارجية، ربما حتي لا يهتم كثيرًا بالمترجم وبما يفعله، وربما يظن أن المسألة تكمن فقط في إجادة لغتين. ولكن الحقيقة وهذا ما أثبتته الأبحاث الحديثة في مجال دراسة الترجمة - أن الترجمة هي عملية تحتاج إلي أكثر من ذلك بكثير، فهي تحتاج أيضًا إلي قدرة شخصية علي التفاعل مع النص، والانشغال به. فالمترجم لا يتعامل مع نص جامد يرغب في نقله، ولكنه يتعامل مع مشاعر مؤلف وإبداعه. وفي نهاية الأمر، وهو الأهم، تكمن جودة المنتج النهائي في تضافر جهود كل فريق العمل مع دار النشر في إنتاج هذا العمل.
أماني فوزي حبشي
لأخبار الأدب
http://adab.akhbarelyom.com/newdetails.aspx?id=302814