Sunday 13 August 2017

مقدمة المؤلف إيتالو كالفينو لرواية أسلافنا - الجزء الخاص بالفسكونت المشطور



جمعت في هذا الكتاب ثلاث قصص كتبتها في عقد الخمسينيات. إن ما يجمع بين هذه القصص الثلاث هو الخيال فأحداثها تقع في أزمنة سحيقة وأمكنة متخيلة. وعلى الرغم من الاختلافات بين هذه القصص فإن هذه الخصائص المشتركة تجعلني اسميها "حلقة" بل "حلقة متكاملة"، أي منتهية ذلك لأني لا أنوي أن أكتب قصصاً أخرى من هذا النوع. وها قد أتيحت لي الفرصة لأعيد قراءة هذه القصص ولأحاول أن أجيب على أسئلة كنت أغض الطرف عنها كلما خطرت لي على بال: لماذا كتبت تلك القصص؟ ماذا أردت أن أقول؟ وما الذي قلته بالفعل؟ وما دلالة  هذا النوع من السرد القصصي في إطار الأدب اليوم؟
في البداية كنت أؤلف قصصاً تتبع  مذهب "الواقعية الجديدة"، كما كانوا يسمونها في ذلك الوقت، أي أنني كنت أحكي قصصاً حدثت  ليس لي ولكن للآخرين، أو كنت أتخيل إمكانية حدوثها أو أتخيل أنها حدثت بالفعل، و"الآخرون" كانوا أناسا "من الشعب" ولكن غالباً ما كانوا حالات استثنائية. على كل كانت شخصيات غريبة يمكن تقديمها فقط من خلال كلماتها أو إيماءاتها، دون أن أبحث كثيراً في خلفياتها الفكرية أو العاطفية. كنت أكتب جملاً مختصرة وسريعة. كان كل ما يهمني هو انطلاقة معينة أو سلوك معين. وكانت تعجبني القصص التي تدور أحداثها في  الهواء الطلق وفي الأماكن العامة، كالمحطات وكل تلك العلاقات الإنسانية بين الأشخاص الذين يتقابلون عن طريق الصدفة؛ ولم تكن تهمني وربما لم أتغير كثيراً منذ ذلك الوقت الحالة النفسية، وبواطن الأمور، والأمور الداخلية  والحياة العائلية والعادات والمجتمع (وخاصة إذا كان مجتمعاً صالحاً)
ولسبب ما بدأت بقصص المناضلين من رجال المقاومة إذ أنها كانت تحقق نتائج ناجحة حيث كانت قصصاً مليئة بالمغامرات والحركة، وطلقات الرصاص، كانت قاسية ومرحة إلى  حد ما، مثل روح هذا العصر، و تتميز بروح "الإثارة" التي تشبه الملح في الرواية. وكتبت أيضاً رواية قصيرة عام  1946 بعنوان "مدق أعشاش العنكبوت"، وفيها أخذت أصبغ كل شئ بقسوة الواقعية الجديدة، و لكن بدأ النقاد  يقولون إنني "أسطوري"، وفهمت أصول اللعبة؛ أدركت جيداً أن الكاتب يحصل على هذا التقدير  عندما يكتب بشكل أسطوري وخرافي عن مشاكل الطبقة الكادحة، أو عن أخبار الحوادث ولكنه لا يمكن أن يكون اسطورياً إذا كتب عن القصور و البجع إذ أن ذلك لا يتطلب أي مهارة.

          وهكذا حاولت أن أكتب روايات تتبع اتجاه الواقعية  الجديدة،  تحكي عن حياة الشعب في تلك الأعوام، ولكنها لم تحظ برضاي فتركتها كما هي بخط اليد في درج مكتبي. فإذا أخذت احكي بنبرة مرحة، كان الأمر يبدو مصطنعاً؛ فالحقيقة كانت معقدة جداً؛ وكان كل أسلوب أدبي استخدمته للتعبير عن هذا الواقع  يبدو مصطنعاً. وإذا استخدمت نبرة أكثر جدية وتأملاً كان كل شئ يتحول إلى اللون الرمادي، للحزن، وكنت أفقد أي بصمة تشير إليّ، أي الدليل  الوحيد على  أن من يكتب  هو أنا وليس شخصاً آخر. لقد كان جرس الأشياء هو الذي تغيّر؛ فلقد تباعد زمن الحياة المنفلتة  إبان فترة المقاومة وفترة ما بعد الحرب، ولم يعد المرء يصادف كل تلك الأنماط الغريبة التي كانت تحكي قصصاً استثنائية، أو ربما كنت ما زلت أصادفهم ولكنني لم أعد أتعرف على نفسي  من خلالهم ومن خلال قصصهم. واتخذُت الحقيقة مواقف مختلفة وطبيعية  في مظهرها الخارجي،  وأصبحت تلك الحقيقة حقيقة مؤسسية، فلم يعد من السهل رؤية الطبقات الشعبية إلا من خلال المؤسسات التى تمثلها؛ وأصبحت أنا أيضاً منضماً إلى فئة لها وضعها القانوني، فئة المثقفين  في المدن الكبرى، بحللهم الرمادية وقمصانهم البيضاء. ولكني فكرت: ما أسهل إلقاء اللوم على الظروف الخارجية، ربما لم أكن كاتباً حقيقياً، ربما كنت شخصاً كتب مثل كثيرين مأخوذاً بفترة التغييرات؛ ثم انطفأ بداخله هذا الحماس.
          وهكذا، بغصة في نفسي وبإحساس المرارة من كل شئ حولي، شرعت في كتابة الفسكونت المشطور عام 1951  لاستغلال وقت الفراغ. لم يكن لدي أي غرض ولم أكن أنوي اتباع إتجاه أدبي معين دون غيره، ولم تكن نيتي أيضاً استخدام الرموز الأخلاقية،أو حتى العمل السياسي بمعناه الضيق. كنت بالفعل متأثراً وإن لم أدرك ذلك بالجو السائد في تلك الأعوام، فلقد كنا في قلب الحرب الباردة، وكان يسود حولنا نوع من التوتر والتمزق الأبكم اللذين لم يظهرا في صورة مرئية ولكنهما كانا يسيطران على نفوسنا. ودون أن أدري وجدت نفسي أكتب رواية  خيالية تماماً وأعبر ليس فقط عن معاناة تلك اللحظة الخاصة ولكن أيضاً عن محاولة الخروج منها؛ أي أنني لم أقف مكتوف اليدين أمام  الواقع السلبي ولكنني نجحت في أن أبث فيه الحركة و الغرابة، القسوة والاقتصاد في التعبير والتفاؤل القاسي؛ وهذه جميعاً كانت  عناصر أدب المقاومة.
          لم يكن لدي في  البداية سوى هذا الدافع، مجرد قصة في ذهني أو الأفضل أن نقول إن القصة  كانت مجرد صورة في ذهني. ففي أصل كل رواية كتبتها كانت هناك صورة تدور في رأسي- لا أعرف كيف ولدت وأجد  نفسي مهموماً بها ربما لسنوات. ورويداً رويداً أجد نفسي أعمل على تطوير تلك الصورة لتصبح قصة لها بداية ونهاية، وفي الوقت ذاته أقنع نفسي بأن هذه القصة تحتوي على معنى ولكن عادةً ما كانت هاتان  العمليتان تتمان بشكل متواز  ومستقل. وبمجرد أن أبدأ الكتابة يتكشف لي كل ما كان معلقاً كما أشرت تواً. بالكتابة فقط يمضي كل شئ في ذهني إلى مكانه الصحيح.

          منذ فترة قليلة كنت أفكر في رجل انشطر طولياً إلى نصفين ، وكل نصف منهما ذهب إلى حال سبيله. هل هي قصة جندي في حرب حديثة؟ ولكن استخدام أسلوب الهجاء فيما يتعلق بهذه الحرب قد صار مستهلكاً، ورأيت أنه من الأفضل  تناول حرب من الزمن البائد، الأتراك مثلاً. وماذا عن الإصابة؟  هل تكون بسبب  سيف؟ لا، الأفضل أن تكون بسبب طلقة مدفع، وهكذا سيكون الاعتقاد أن هناك جزءاً قد دمر تماماً، ولكنه سيظهر فيما بعد. ولكن أكان لدى الأتراك مدافع؟ نعم، ليكن موضوعنا هو الحروب بين النمسا والأتراك في نهاية القرن السابع عشر، في عصر الأمير اوجينيو. وعلى أن يبقى كل شئ مبهماً إلى حد ما، فالرواية التاريخية لم تكن تهمني (بعد). إذن ينجو أحد النصفين، ويظهر النصف الآخر في وقت لاحق. ولكن كيف يمكن التمييز بينهما؟ إن طريقة التأثير الأكيدة هي أن يكون هناك نصف طيب ونصف شرير، تضاد على طريقة ستيفنسون مثل دكتور جيكل ومستر هايد، أو الأخوين  في رواية سيد بالانتراى. وهكذا نظمت القصة نفسها على أساس شكل هندسي دقيق. وكان يمكن للنقاد أن يمضوا  في الطريق الخاطئ ويقولوا إن ما كان في ذهني هو عرض فكرة الخير والشر. لا لم يكن هذا ما أريده مطلقاً، بل أنني لم أفكر لحظة واحدة في فكرة الخير والشر. فكما يفعل الرسام عندما يستخدم التضاد في الألوان ليظهر شكل ما، هكذا استخدمت أنا تضاداً روائياً واضحاً لأظهر ما يهمني أي الانقسام.

          فالإنسان المعاصر ممزق، منقسم، غير مكتمل، بل عدو لنفسه، يصفه ماركس بأنه "مغترب" وفرويد بأنه "مقمع"، فإن حالة التناغم القديمة قد ولت، وبدأنا نتطلع إلي  نوع جديد من التكامل. تلك هي النواة الأيديولوجية الأخلاقية التي كنت أريد اضافتها بوعي للقصة، ولكن بدلاً من أن أعمل على تعميقها على الصعيد الفلسفيّ، فضلت أن أعطي للرواية هيكلاً يعمل عمل آلة متكاملة وأن أعطيها جسداً ودماً من التراكيب الخيالية الغنائية. 
ولم أستطع أن أحمّل البطل وحده  نموذج أنماط تمزق الإنسان المعاصر، إذ انه كان يكفيه أن يمضي قدماً بأحداث القصة وآليتها، لذلك وزعت هذا التمزق على بعض الشخصيات المحيطة به. كانت إحدى  تلك الشخصيات هي شخصية المعلم بيتروكيودو النجار والتي يمكن أن أقول إنها الشخصية الوحيدة التي لها دور أخلاقي خالص وبسيط.  وهذا الشخص يصنع مشانق وأدوات تعذيب دقيقة ومتطورة محاولاً ألا يفكر في مجال استخدامها ، هكذا مثلما يفعل العالم أو التقني اليوم عندما يصنع قنابل ذرية أو حتى عادية دون أن  يعرف في أي مجتمع ستستخدم،  ويظل التزامه الوحيد هو "إجادة صنعته" غير  كاف لتهدئة ضميره. وموضوع العالم "الصرف" المحروم (أو غير الحر) من التكامل مع الإنسانية الحية يظهر أيضاً في شخصية الدكتور تريلاوني، والتي ظهرت بطريقة مختلفة تماماً وكأنها صورة مصغرة لإزدواجية  ستيفسن، تستدعيها كل  الدلالات الأخرى لهذا المناخ،  واكتسبت بذلك نوعاً من الاستقلالية النفسية.

          و تنتمي "مجموعتا" مرضى الجذام والهوغونيين إلى شكل من أشكال الخيال أكثر تعقيداً، فهما تشكلان خلفية غنائية خيالية للرواية قد تكون مرتبطة بالتقاليد التاريخية القديمة  المحلية لقرى مرضى الجذام (في أرض ليجوريا أو بروفينسا، ومجموعات الهوغونيين الهاربين من فرنسا في كونييزي، وذلك بعد إلغاء قرار "كانت" أو قبل ذلك أيضاً، بعد ليلة القديس بارتولوميو) . فلقد ظهر مرضى الجذام ليمثلوا لي اللذة، وعدم المسئولية والسقوط السعيد، والعلاقة بين النزعة الجمالية والمرض، أي بطريقة ما مذهب الإنحطاط  الفني والأدبي المعاصر، ليس فقط  ولكن أيضاً ذلك المذهب الموجود  منذ الأزل (اركاديا). ويمثل الهوغونيون  الانقسام المضاد، الأخلاقيات، ولكن بوصفهم صورة  لشئ أكثر تعقيداً حيث  يدخل في ذلك نوع من السر العائلي (افتراض أصل اسم عائلتي لم يتأكد حتى الآن)؛ فهو تصوير  (هجائي وملئ بالإعجاب في الوقت ذاته) للأصول البروتستانتية للرأسمالية كما وصفها ماكس  فيبر، ووبالتالي  لأي مجتمع آخر مبني على الأخلاقيات الفعّالة؛ وهو  استدعاء مفعم  بالتعاطف وخال من الهجاء  لأخلاقيات دينية بلا دين.
          ويبدو لي أن كل الشخصيات الأخرى لرواية الفسكونت المشطور لا معنى لها سوى وظيفتها في الحبكة الروائية. بعضها خرج بصورة جيدة بالفعل - أي اكتسب حياة حقيقية - مثل المربية سيباستيانا، والفسكونت ايولفو أيضاً بالرغم من ظهوره الخاطف. أما عن شخصية الفتاة (الراعية باميلا) فقد كانت  مجرد نموذج للواقعية الأنثوية في مقابل لا إنسانية المشطور.    

وماذا عن مداردو المشطور؟ لقد قلت إنه كان يتمتع بحرية أقل من الآخرين؟ فمسيرته محددة مسبقاً لتتفق مع الحبكة الروائية. ولكن بالرغم من كونه محدوداً هكذا إلا إنه نجح في أن يظهر غموضاً عميقاً يتوافق مع شئ ما لم يكن قد  اتضح بعد في ذهن المؤلف. كان هدفي المؤكد هو محاربة كل انقسامات الإنسان، والبحث عن الإنسان الكامل. ولكن الواقع أن مداردو الكامل الذي ظهر في البداية، بعدم حسمه، لم تكن له شخصية أو شكل، أما مداردو الذي أعيد اكتماله في النهاية فلم نعرف عنه شيئاّ؛ ذلك أن الذي عاش في الرواية هو فقط مداردو عندما كان منقسماً على ذاته. والنصفان، هاتان الصورتان المتضادتان لما هو غير إنساني، صارا أكثر إنسانية فلقد كانا يحركان علاقة متضادة، النصف الشرير التعس يثير الشفقة، والنصف الطيب الأكثر تألماً يثير السخرية، وكنت أجعل كل منهما يتغنى بمديح الانقسام وكأنه أفضل طريقة للوجود،  ويصب اللعنات  على "الكمال البليد"، وذلك من خلال وجهتي النظر المتضادتين.  أيكون السبب هو أن الرواية ولدت في عصر من الإنقسامات فأصبحت تمثل على الرغم منها الضمير الممزق؟ أو بالأحرى لأن التكامل الإنساني الحقيقي لا يكون مجرد سراب لكمال أو كونية غير محددان  أو متاحان، وإنما يكون في البحث المتعمق المدقق فيما نحن عليه طبيعياً وتاريخياً  و في ذلك الاختيار الإرادي الشخصي، أو لبناء ذات أو تخصص، إو  مجرد اختيار أسلوب أو مجموعة من الدلالات الشخصية الداخلية والتنازلات الفاعلة، التي يجب أن نستكملها حتى النهاية؟! كانت الرواية تدعوني من جديد بقوة دفعها الداخلية التلقائية لما كان وما سيظل دائماً موضوعي الروائي؛ موضوع شخص يفرض على نفسه بكامل إرادته قاعدة صعبة ويتتبعها بالرغم من كل العواقب ، لأنه دون هذه القاعدة لن يحقق ذاته لا من أجل  نفسه أو الآخرين.
ترجمة: د. أماني فوزي حبشي
مراجعة: د. محب سعد 

No comments:

Post a Comment