Friday 4 August 2017

مقدمة لم تُنشر لترجمة رواية بندول فوكو - أومبرتو إيكو

تقديم

إن تقديم ترجمة لرواية بندول فوكو لأومبرتو إيكو عمل جد عسير، فالكتاب ليس مجرد رواية بوليسية فحسب، فنحن أمام عدة كتب في كتاب، عدة كتب تستعرض معارف متنوعة من ثقافات مختلفة. فهو ينطلق من أوروبا العصور الوسطى لينتقل بنا إلى البرازيل حيث الديانات الأفريقية ثم إلى الشرق الأوسط حيث الحروب الصليبية وجماعة الحشاشين. 
تدور أحداث الرواية في إحدى دور النشر، خلال مدة تصل إلى عشرين عامًا، فيها يتناول المؤلف ليس فقط  الاحداث الشخصية والمعرفية للمحررين (أبطال الرواية) فحسب، ولكنه يتعرَّض أيضًا للتغيرات السياسية والثقافية التى حدثت في إيطاليا فى اللحظة التاريخية التي تدور فيها الرواية، مع عودة من حين لآخر لاستعراض جزء من التاريخ الإيطالي في فترة أفول الفاشية. تستعرض الرواية في اطار بوليسي رغبة ثلاثة من المحررين في تأليف خطة تأسيس العالم، خطة تبرر أحداث التاريخ، وتبرر وجود البشر على سطح الأرض، وتبرر أيضًا وجودهم. تقودهم الخطة لمواجهات سواء على المستوى الخارجي أو الداخلي، مواجهات مع جماعات منحرفة تبحث لنفسها عن غرض، ومواجهة مع النفس لفحص أسباب تلك الرغبة في ابتداع الخطة. تحتوي الرواية على عديد من الاسماء التاريخية والحركات الدينية والسياسية، والتي يتضح وجود تفسير لها في سياق الرواية، ولذلك فضلت أن أترك الرواية بلا هوامش لكي لا يفقد القاريء متعة البحث والتي تميز قراءة عمل مركب مثل هذا يحتوي على معلومات لا نهاية لها عن العوالم الغامضة والسفلية، وعن الافكار التي مرت على الانسان في محاولاته المستمرة لاكتشاف بداية كل شيء بطرقٍ ووسائل مختلفة، أحياناً ما تكون منحرفة.

الرواي هو أحد المحررين الثلاثة، ذلك المتخصص في تاريخ فرسان المعبد،  والذي يحكي أحداث الرواية في فترة يومين فقط، فيهما يستعيد العشرين سنة الماضية، يتقاطع مع تلك الاحداث ما كتبه بيلبو- زميله المحرر الآخر- من ملفاتٍ يسجل فيها أحداث حقيقية مرت في طفولته، أو أحداثًا تخيلية خطرت بباله بناء على الخطة. تزودنا الرواية بتاريخ حركة فرسان المعبد، والتي كانت  قد بدأت في الأراضي المقدسة بنية الدفاع عن الحجاج في تلك الفترة، والتي نظرًا لأنها أصبحت فيما بعد من أقوى وأغنى الحركات الدينية، وبالتالي كانت تشكل تهديدًا على الملكية، عمل الملك فيليب الرابع على محاكمتهم، واتهامهم بالهرطقة والقائهم في المحارق. لم يستطع من قرأ تاريخهم الاقتناع بسهولة اعترافهم واستسلامهم للموت، فنسجت حولهم الكثير من الاساطير، والتي تعلقت بمؤامرة كونية خططوا لها، وكنز خبأوه، وبالطبع الكأس المقدس ذا القوى الخارقة الذي بالتأكيد كانوا قد حصلوا عليه وخبأوه.    
وللرواية أهميتها الخاصة فى اللحظة الحاضرة أيضًا، فبالرغم من أنها لم تحظ بالنجاح نفسه الذي حظيت به "اسم الوردة" إلا أنها عادت مرة أخرى للبروز على السطح في أعقاب نجاح رواية دان براون "شفرة دافينشي" والتي بدا مؤلفها متأثرًا بكثير من الأفكار التي تناولها إيكو عام 1988 في بندول فوكو. الشيء الطريف أنه عندما سُئل إيكو عن رأيه في شفرة دافينشي قال: لقد اضطررت لقرائته لأن الكثيرين سألوني عنه. إليهم أجيب بأن دان براون هو أحد شخصيات روايتي "بندول فوكو" والتي فيها أتناول الشخصيات التي تؤمن بحثالة العبادات السرية. وعندما سألته المحاورة: ولكن يبدو أنك أيضًا تهتم بالقبالاة والسيمياء، وبعض الممارسات التي وصفتها في كتابك. أجابها إيكو: لا، في البندول قدمت تلك الشخصيات بطريقة غرائبية. لذلك أرى أن دان براون أحد تلك الشخصيات التي ابدعتها في الرواية[1].

يتناول إيكو في الرواية فترة ظهور الحاسوب كأداة جديدة للكتابة، والتي احتلت مكان الورقة والقلم لدى كثير من المبدعين، ودوره في التحرير، وسهولة التعامل معه، من خلال شخصية بيلبو، الذي أطلق اسم أبو العافية على حاسوبه، وكان يعتمد عليه في تخزين أسراره وأفكاره، بل وفي اختلاق أجزاء من الخطة.

أثناء الترجمة، كما هي العادة، قابلتني العديد من الصعوبات، أولها اعتماد المؤلف على كثير من الإحالات الأدبية، والتي لابد للقارىء أن يكون على دراية بها ليفهم ما يرمي إليه المؤلف. عادة ما تفقد تلك الإحالات (إذا كانت تعتمد على  استخدامها الحرفي باللغة الإيطالية)  أثناء عملية النقل إلى لغة أخرى، أو أن يحاول المترجم، البحث عن السياق المقابل في لغته التي تحمل معنى مشابه، قريب من المعنى الذي يرغب المؤلف الوصول إليه في اللغة الأصلية، وقد حاولت ذلك في العديد من المقاطع بالفعل أو أن أشير بطريقة ما إلى ما يقصده المؤلف في متن الترجمة. إلا أنه لابد من الاعتراف بصعوبة الاحتفاظ بكل الإحالات الأدبية الحرفية عند النقل إلى لغة أخرى. وقد حاور الكثيرون إيكو بهذا الشأن، بل واتهموه بأنه لا يهتم كثيرًا بترجمة كتبه إلى لغات أخرى لما تحويه من كثير من تلك الإحالات، إلا أنه كان يجيب بأن الترجمة، والتي يهتم بها هو شخصيًا، وكتب كثير من الدراسات عنها، هي عملية تفاوض " من باب انطوائها على التضحية بشيء ما، للحصول على شيء آخر وسط الفوارق المتفاوتة بين الأنظمة اللغوية"[2]
 تعتمد الرواية في إطارها وأفكارها على القبالاة، وهى مجموعة التفسيرات والتاويلات الباطنية والصوفية عند اليهود. والاسم مشتق من كلمة عبرية تفيد معنى التواتر او القبول او التقبل او ماتلقاه المرء عن السلف اى التقاليد والتراث وكان يقصد بالكلمة اصلا تراث اليهود الشفوى المتناقل فيما يعرف باسم الشريعة الشفوية وقد اطلق العارفون باسرار القبالاة على انفسهم لقب العارفون بالفيض الربانى، وكان القباليون يرون ان معرفة أسرار الكون توجد فى اسفار موسى الخمسة وهم يرفضون تفسير الفلاسفة المجازى او التفسير الحرفى فقد كانوا ينطلقون من مفهوم غنوصى باطنى يفضى الى معرفة اسرار الكون و أسرار نصوص العهد القديم وحسب رايهم ان التوراة هى خطة الإله للخلق كله وينبغى دراسة كل كلمة فيها لأنها تمثل رمزا وكل علامة او نقطة فيها تحوى سردا داخليا. وسنجد كيف أن التجليات النورانية العشرة للقبالاة تؤطر أحداث  الرواية، والتي يهتم المؤلف بشرح معنى كل منها في بداية أو نهاية كل جزء من أجزاء الرواية العشر، وكيف أن العبث ب"قدسية" الكلمة، والتي تعتمد عليها القبالاة، في رأي أحد أبطال الرواية، وترتيب الأحرف يمكن أن يؤدي إلى كوارث ويقضي على حياة من يعبث بها.  وقد استعنت لترجمة هذه المصطلحات بموسوعة الاستاذ الدكتور عبد الوهاب المسيري: اليهود واليهودية والصهيونية، والتي كانت مرجعًا أساسيًا في ترجمة كل ما تعلق بهذا الموضوع.
تنقلنا الرواية أيضًا للعالم السري لدور النشر، عمل المحررين، وطرق النشر والتوزيع، عالم المؤلفين الجدد وطرق التعامل معهم. العالم الخلفي للنشر، عالم خداع الذات، وخداع من لا موهبة له ويرغب في النشر. ويتضح من الرواية وجود عالم خاص خفي ربما لا يعرف عنه أحد الكثير. ذلك العالم الذي تخلقه دور النشر،  حيث تخترع دور النشر لهذا الغرض الموسوعات، بل والجوائز الأدبية لخداع من يرغبون في النشر وهم لا يملكون أية موهبة.
يبقى التنويه بأن المؤلف بدأ كل فصل من فصول الرواية باستشهاد من كتب متنوعة بلغات متنوعة،  والتي كان لابد لترجمة اللاتينية والاسبانية والبرتغالية منها الاستعانة ببعض الاصدقاء، والذين أود أن أشكرهم من خلال تمهيدي هذا: لويجي ماريا موزاتي، ماريانتونيتا نانيا، جينارو جيرفاتزيو.



No comments:

Post a Comment