Tuesday 8 August 2017

اذهب حيث يقودك قلبك - سوزانا تامارو - التقديم

تقديم

أثناء تجولها وحيدة في منزلها، ومع هبوب الرياح الباردة في الخارج تعلن عن بداية الخريف والذي بدأ تدريجيًا يطفىء ألوان الحديقة الزاهية، تقرر سيدة مسنة، نظرًا لاصابتها بمرض خطير، أن تكتب خطابًا طويلاً إلى حفيدتها التي تعيش في أمريكا للدراسة، خطاب تكتبه كيوميات، ولكنه يحتوي في مضمونه ليس فقط على سيرتها الذاتية، ولكن عن خلاصة خبرتها ورؤيتها للحياة.
إنها محاولة لقيل ما لم يقال، محاولة لتفسير الغموض والتوتر في العلاقة، خطاب حب تحاول من خلاله إعادة أواصر علاقة انهارت وتسبب في تدهورها صراع الاجيال وصعوبة التفاهم والتقارب بين عقلية في الثمانين واخرى بدأت لتوها سن المراهقة.
وهكذا بالتمرد على قانون الطبقة البرجوازية الثابت، والذي يفرض كثير من الحواجز في العلاقات، ويفرض على الاشخاص اخفاء الكثير من الحقائق وعدم مواجهة المشاعر، تأخذ الجدة الورقة والقلم لتقوم بأول عمل شجاع في حياتها، بأن تحب وتفتح قلبها...
"إذا كنت قد فهمت حينئذ أن أول صفات الحب هي القوة" تعترف في لحظة ما "لكانت الأحداث فد صارت بشكل  مختلف"
تحكي الجدة عن طفولتها والتربية القاسية التي عانت فيها من قمع المشاعر، سواء في منزلها أو في مدرسة الراهبات التي التحقت بها. تحكي عن طفولة اتسمت بالتحفظات والاهتمام بالمظاهر، والتي قادتها فيما بعد للزواج من رجل ممل وعادي، وكيف ادى ذلك فيما بعد إلى "علاقة صراع" بين ابنتها الوحيدة، ثم الموت المأسوي لتلك الابنة، الموت الذي تشعر أنها مسئولة عنه – وهي لا تخفي أي شيئ، حتى إن بدت في ذلك كله قاسية وعديمة الرحمة، مع نفسها قبل كل شيء.
ولكن ليس غرضها من هذا كله هو أن تفضح نفسها، ولا حتى أن تريح ضميرها؛ ولكنها بالتحدث عن صدق المشاعر وباضفائها الاسماء الحقيقية للأشياء، دون تزييف، أو تغطيتها بأخلاقيات مفتعلة، تريد الجدة، والتي عاشت أحداث قرن من التاريخ وشهدت تغييرات جذرية في العادات وانقلاب في القيم، تريد فقط أن تُذّكر حفيدتها- بكل الحب- أنه لا يوجد عدو أسوأ من أنفسنا، وما نخفيه في قلوبنا، وبأن الرحلة الوحيدة التي تستحق أن تقوم بها هي تلك التي تهدف للوصول إلى عمق ذواتنا، إلى البحث عن الصوت الأصلي الموجود داخل كل منا، والذي يحميه ويحفظه بداخله.  
يتميز هذا الخطاب الطويل بالقدرة على تأريخ المشاعر بعذوبة، فتصف شعورها بالتقدم في العمر بالعبارة التالية: إن فكرة القدر تأتي مع التقدم في السن، عندما يكون المرء شابًا لا يفكر في القدر، فكل شيء يحدث يراه ثمرًا لإرادته الخاصة.. إن اكتشاف "القدر" يحدث في سن الأربعين، عندئذ تبدئين في إدراك أن الاشياء لا تتوقف عليك أنت فقط... وحتى ترى القدر بحقيقته الكاملة يجب أن تمر بضعة أعوام أخرى. وفي سن السبعين، عندما ترين شيئًا لم تريه من قبل: إن الطريق الذي اجتزته لم يكن طريقًا مستقيمًا ولكنه مليء بالمفترقات، في كل خطوة كان هناك سهم يشير إلى اتجاه مختلف، ومن هنا يبدًا طريق ومن هناك طريق... ربما ابتلعتك إحدى تلك الطرق المنحرفة دون أن تدركي، ولم ترى الأخرى وتلك التي اهملتها لم تعرفي إلى أين كان يمكن أن تقودك، إذا كان ذلك المكان سيكون أفضل أم أسوأ، وبالرغم من أنك لا تعرفين هذا إلا أنك مع ذلك تندمين. فلقد كان يمكنك عمل شيء ولم تفعليه، لقد عدت إلى الوراء بدلاً من التقدم إلى الأمام.
الحوار المفتقد بين الأجيال.. المشاعر التي تراود المرء في مراحل حياته المختلفة وكيف يمكن التعرف إليها... المحاولة الصادقة للبحث عن ذلك العمق الذي يمكن أن يقود حياة كل منا... أحداث الحياة المختلفة التي تعصف بنا ونحن نحاول أن نتحسس طريقنا... محاولة كل منا العثور على طريقه في الحياة الاجتماعية والتخبط بين البحث عن التفوق العلمي والتمسك بالقيم الإنسانية وبين أن يلهث المرء خلف شهواته ومتعته في النظر كيف يؤثر ذلك فيمن حوله... العلاقات الإنسانية التي أصبحت جافة جدًا وخالية من كل طرق التعبير الإنسانية والتي تؤثر فيما بعد على تكوين الشخصية...
تلك هي الأفكار التي تدعونا الكاتبة سوزانا تامارو للتأمل فيها من خلال الرواية مستخدمة لغة بسيطة ومشاعر عميقة
هل نحن أمام نصًا نسويًا إذن؟
منذ السطور الأولى يتضح لنا هذا الأمر، فالرواية التي تحكي حياة الجدة وما تعرضت له من قمع، مرتبط إلى حد كبير بطبقتها الاجتماعية، ويُنفذ على يد امرأة أخرى، أمها أحيانًا والراهبة في المدرسة، احيان أخرى، إلى معاناة من نوع آخر سواء مع الأب أو الزوج، تجذبنا معها في عالمها الخاص لتنقل إلينا كل تلك المشاعر والرؤية الأنثويه الخاصة بحياتها، ليس فقط بل وأيضًا لمن حولها والأجيال التي تلت جيلها.
عن رؤية مثل هذه يمكن أن نستعير وصف الرائعة لطيفة الزيات لأعمالها الابداعية التي تحمل بصمتها كأمرأة فتقول:
"أما أعمالي الابداعية فتحمل بصمتي كأمرأة، كهذا النتاج التاريخي الاجتماعي لمجتمع معين في فترة من فترات تطوره، وتحمل بصمتي كهذه المرأة الفريدة التي هي أنا. في الأعمال الإبداعية أكتشف رؤيتي الحياة وأبلورها، أخلع أقنعتي، فلا أبقي شيئًا سوى وجه الحقيقة العاري. أبدد أوهامي عن الذات ستارًا بعد ستار، أعلو على توجساتي ومخاوفي، أحس، أجرؤ، أنطق صدقًا، ولو على ذاتي، أكون المرأة الخانقة المقدامة، الضعيفة القوية، الهشة الصلبة، المتمزقة بين العقل والوجدان، التي هي أنا، كتاباتي الابداعية تعرفني وتعرفني" (من شهادة مبدعة، أدب ونقد، نوفمبر 1996)


ولدت سوزانا تامارو في تريستى عام 1957. درست في المركز التجريبي للسينما في روما. ألفت العديد من الروايات منها رأس بين السحب، واذهب حيث يقودك قلبك الذي نال نجاجًا عالميًا، وفي عام 2003 قامت بأول تجربة لها في الاخراج فيلم "في حبي"، عن رواية "لا وجود للجحيم". من رواياتها الأخرى: عزيزتي ماتيلدا، اجبني، ورواية الاطفال: القلب السمين، وهي روايات ترجمت للعديد من اللغات.


أماني فوزي حبشي

No comments:

Post a Comment