Sunday 13 August 2017

مقدمة المؤلف إيتالو كالفينو لرواية أسلافنا - الجزء الخاص بالفسكونت المشطور



جمعت في هذا الكتاب ثلاث قصص كتبتها في عقد الخمسينيات. إن ما يجمع بين هذه القصص الثلاث هو الخيال فأحداثها تقع في أزمنة سحيقة وأمكنة متخيلة. وعلى الرغم من الاختلافات بين هذه القصص فإن هذه الخصائص المشتركة تجعلني اسميها "حلقة" بل "حلقة متكاملة"، أي منتهية ذلك لأني لا أنوي أن أكتب قصصاً أخرى من هذا النوع. وها قد أتيحت لي الفرصة لأعيد قراءة هذه القصص ولأحاول أن أجيب على أسئلة كنت أغض الطرف عنها كلما خطرت لي على بال: لماذا كتبت تلك القصص؟ ماذا أردت أن أقول؟ وما الذي قلته بالفعل؟ وما دلالة  هذا النوع من السرد القصصي في إطار الأدب اليوم؟
في البداية كنت أؤلف قصصاً تتبع  مذهب "الواقعية الجديدة"، كما كانوا يسمونها في ذلك الوقت، أي أنني كنت أحكي قصصاً حدثت  ليس لي ولكن للآخرين، أو كنت أتخيل إمكانية حدوثها أو أتخيل أنها حدثت بالفعل، و"الآخرون" كانوا أناسا "من الشعب" ولكن غالباً ما كانوا حالات استثنائية. على كل كانت شخصيات غريبة يمكن تقديمها فقط من خلال كلماتها أو إيماءاتها، دون أن أبحث كثيراً في خلفياتها الفكرية أو العاطفية. كنت أكتب جملاً مختصرة وسريعة. كان كل ما يهمني هو انطلاقة معينة أو سلوك معين. وكانت تعجبني القصص التي تدور أحداثها في  الهواء الطلق وفي الأماكن العامة، كالمحطات وكل تلك العلاقات الإنسانية بين الأشخاص الذين يتقابلون عن طريق الصدفة؛ ولم تكن تهمني وربما لم أتغير كثيراً منذ ذلك الوقت الحالة النفسية، وبواطن الأمور، والأمور الداخلية  والحياة العائلية والعادات والمجتمع (وخاصة إذا كان مجتمعاً صالحاً)
ولسبب ما بدأت بقصص المناضلين من رجال المقاومة إذ أنها كانت تحقق نتائج ناجحة حيث كانت قصصاً مليئة بالمغامرات والحركة، وطلقات الرصاص، كانت قاسية ومرحة إلى  حد ما، مثل روح هذا العصر، و تتميز بروح "الإثارة" التي تشبه الملح في الرواية. وكتبت أيضاً رواية قصيرة عام  1946 بعنوان "مدق أعشاش العنكبوت"، وفيها أخذت أصبغ كل شئ بقسوة الواقعية الجديدة، و لكن بدأ النقاد  يقولون إنني "أسطوري"، وفهمت أصول اللعبة؛ أدركت جيداً أن الكاتب يحصل على هذا التقدير  عندما يكتب بشكل أسطوري وخرافي عن مشاكل الطبقة الكادحة، أو عن أخبار الحوادث ولكنه لا يمكن أن يكون اسطورياً إذا كتب عن القصور و البجع إذ أن ذلك لا يتطلب أي مهارة.

          وهكذا حاولت أن أكتب روايات تتبع اتجاه الواقعية  الجديدة،  تحكي عن حياة الشعب في تلك الأعوام، ولكنها لم تحظ برضاي فتركتها كما هي بخط اليد في درج مكتبي. فإذا أخذت احكي بنبرة مرحة، كان الأمر يبدو مصطنعاً؛ فالحقيقة كانت معقدة جداً؛ وكان كل أسلوب أدبي استخدمته للتعبير عن هذا الواقع  يبدو مصطنعاً. وإذا استخدمت نبرة أكثر جدية وتأملاً كان كل شئ يتحول إلى اللون الرمادي، للحزن، وكنت أفقد أي بصمة تشير إليّ، أي الدليل  الوحيد على  أن من يكتب  هو أنا وليس شخصاً آخر. لقد كان جرس الأشياء هو الذي تغيّر؛ فلقد تباعد زمن الحياة المنفلتة  إبان فترة المقاومة وفترة ما بعد الحرب، ولم يعد المرء يصادف كل تلك الأنماط الغريبة التي كانت تحكي قصصاً استثنائية، أو ربما كنت ما زلت أصادفهم ولكنني لم أعد أتعرف على نفسي  من خلالهم ومن خلال قصصهم. واتخذُت الحقيقة مواقف مختلفة وطبيعية  في مظهرها الخارجي،  وأصبحت تلك الحقيقة حقيقة مؤسسية، فلم يعد من السهل رؤية الطبقات الشعبية إلا من خلال المؤسسات التى تمثلها؛ وأصبحت أنا أيضاً منضماً إلى فئة لها وضعها القانوني، فئة المثقفين  في المدن الكبرى، بحللهم الرمادية وقمصانهم البيضاء. ولكني فكرت: ما أسهل إلقاء اللوم على الظروف الخارجية، ربما لم أكن كاتباً حقيقياً، ربما كنت شخصاً كتب مثل كثيرين مأخوذاً بفترة التغييرات؛ ثم انطفأ بداخله هذا الحماس.
          وهكذا، بغصة في نفسي وبإحساس المرارة من كل شئ حولي، شرعت في كتابة الفسكونت المشطور عام 1951  لاستغلال وقت الفراغ. لم يكن لدي أي غرض ولم أكن أنوي اتباع إتجاه أدبي معين دون غيره، ولم تكن نيتي أيضاً استخدام الرموز الأخلاقية،أو حتى العمل السياسي بمعناه الضيق. كنت بالفعل متأثراً وإن لم أدرك ذلك بالجو السائد في تلك الأعوام، فلقد كنا في قلب الحرب الباردة، وكان يسود حولنا نوع من التوتر والتمزق الأبكم اللذين لم يظهرا في صورة مرئية ولكنهما كانا يسيطران على نفوسنا. ودون أن أدري وجدت نفسي أكتب رواية  خيالية تماماً وأعبر ليس فقط عن معاناة تلك اللحظة الخاصة ولكن أيضاً عن محاولة الخروج منها؛ أي أنني لم أقف مكتوف اليدين أمام  الواقع السلبي ولكنني نجحت في أن أبث فيه الحركة و الغرابة، القسوة والاقتصاد في التعبير والتفاؤل القاسي؛ وهذه جميعاً كانت  عناصر أدب المقاومة.
          لم يكن لدي في  البداية سوى هذا الدافع، مجرد قصة في ذهني أو الأفضل أن نقول إن القصة  كانت مجرد صورة في ذهني. ففي أصل كل رواية كتبتها كانت هناك صورة تدور في رأسي- لا أعرف كيف ولدت وأجد  نفسي مهموماً بها ربما لسنوات. ورويداً رويداً أجد نفسي أعمل على تطوير تلك الصورة لتصبح قصة لها بداية ونهاية، وفي الوقت ذاته أقنع نفسي بأن هذه القصة تحتوي على معنى ولكن عادةً ما كانت هاتان  العمليتان تتمان بشكل متواز  ومستقل. وبمجرد أن أبدأ الكتابة يتكشف لي كل ما كان معلقاً كما أشرت تواً. بالكتابة فقط يمضي كل شئ في ذهني إلى مكانه الصحيح.

          منذ فترة قليلة كنت أفكر في رجل انشطر طولياً إلى نصفين ، وكل نصف منهما ذهب إلى حال سبيله. هل هي قصة جندي في حرب حديثة؟ ولكن استخدام أسلوب الهجاء فيما يتعلق بهذه الحرب قد صار مستهلكاً، ورأيت أنه من الأفضل  تناول حرب من الزمن البائد، الأتراك مثلاً. وماذا عن الإصابة؟  هل تكون بسبب  سيف؟ لا، الأفضل أن تكون بسبب طلقة مدفع، وهكذا سيكون الاعتقاد أن هناك جزءاً قد دمر تماماً، ولكنه سيظهر فيما بعد. ولكن أكان لدى الأتراك مدافع؟ نعم، ليكن موضوعنا هو الحروب بين النمسا والأتراك في نهاية القرن السابع عشر، في عصر الأمير اوجينيو. وعلى أن يبقى كل شئ مبهماً إلى حد ما، فالرواية التاريخية لم تكن تهمني (بعد). إذن ينجو أحد النصفين، ويظهر النصف الآخر في وقت لاحق. ولكن كيف يمكن التمييز بينهما؟ إن طريقة التأثير الأكيدة هي أن يكون هناك نصف طيب ونصف شرير، تضاد على طريقة ستيفنسون مثل دكتور جيكل ومستر هايد، أو الأخوين  في رواية سيد بالانتراى. وهكذا نظمت القصة نفسها على أساس شكل هندسي دقيق. وكان يمكن للنقاد أن يمضوا  في الطريق الخاطئ ويقولوا إن ما كان في ذهني هو عرض فكرة الخير والشر. لا لم يكن هذا ما أريده مطلقاً، بل أنني لم أفكر لحظة واحدة في فكرة الخير والشر. فكما يفعل الرسام عندما يستخدم التضاد في الألوان ليظهر شكل ما، هكذا استخدمت أنا تضاداً روائياً واضحاً لأظهر ما يهمني أي الانقسام.

          فالإنسان المعاصر ممزق، منقسم، غير مكتمل، بل عدو لنفسه، يصفه ماركس بأنه "مغترب" وفرويد بأنه "مقمع"، فإن حالة التناغم القديمة قد ولت، وبدأنا نتطلع إلي  نوع جديد من التكامل. تلك هي النواة الأيديولوجية الأخلاقية التي كنت أريد اضافتها بوعي للقصة، ولكن بدلاً من أن أعمل على تعميقها على الصعيد الفلسفيّ، فضلت أن أعطي للرواية هيكلاً يعمل عمل آلة متكاملة وأن أعطيها جسداً ودماً من التراكيب الخيالية الغنائية. 
ولم أستطع أن أحمّل البطل وحده  نموذج أنماط تمزق الإنسان المعاصر، إذ انه كان يكفيه أن يمضي قدماً بأحداث القصة وآليتها، لذلك وزعت هذا التمزق على بعض الشخصيات المحيطة به. كانت إحدى  تلك الشخصيات هي شخصية المعلم بيتروكيودو النجار والتي يمكن أن أقول إنها الشخصية الوحيدة التي لها دور أخلاقي خالص وبسيط.  وهذا الشخص يصنع مشانق وأدوات تعذيب دقيقة ومتطورة محاولاً ألا يفكر في مجال استخدامها ، هكذا مثلما يفعل العالم أو التقني اليوم عندما يصنع قنابل ذرية أو حتى عادية دون أن  يعرف في أي مجتمع ستستخدم،  ويظل التزامه الوحيد هو "إجادة صنعته" غير  كاف لتهدئة ضميره. وموضوع العالم "الصرف" المحروم (أو غير الحر) من التكامل مع الإنسانية الحية يظهر أيضاً في شخصية الدكتور تريلاوني، والتي ظهرت بطريقة مختلفة تماماً وكأنها صورة مصغرة لإزدواجية  ستيفسن، تستدعيها كل  الدلالات الأخرى لهذا المناخ،  واكتسبت بذلك نوعاً من الاستقلالية النفسية.

          و تنتمي "مجموعتا" مرضى الجذام والهوغونيين إلى شكل من أشكال الخيال أكثر تعقيداً، فهما تشكلان خلفية غنائية خيالية للرواية قد تكون مرتبطة بالتقاليد التاريخية القديمة  المحلية لقرى مرضى الجذام (في أرض ليجوريا أو بروفينسا، ومجموعات الهوغونيين الهاربين من فرنسا في كونييزي، وذلك بعد إلغاء قرار "كانت" أو قبل ذلك أيضاً، بعد ليلة القديس بارتولوميو) . فلقد ظهر مرضى الجذام ليمثلوا لي اللذة، وعدم المسئولية والسقوط السعيد، والعلاقة بين النزعة الجمالية والمرض، أي بطريقة ما مذهب الإنحطاط  الفني والأدبي المعاصر، ليس فقط  ولكن أيضاً ذلك المذهب الموجود  منذ الأزل (اركاديا). ويمثل الهوغونيون  الانقسام المضاد، الأخلاقيات، ولكن بوصفهم صورة  لشئ أكثر تعقيداً حيث  يدخل في ذلك نوع من السر العائلي (افتراض أصل اسم عائلتي لم يتأكد حتى الآن)؛ فهو تصوير  (هجائي وملئ بالإعجاب في الوقت ذاته) للأصول البروتستانتية للرأسمالية كما وصفها ماكس  فيبر، ووبالتالي  لأي مجتمع آخر مبني على الأخلاقيات الفعّالة؛ وهو  استدعاء مفعم  بالتعاطف وخال من الهجاء  لأخلاقيات دينية بلا دين.
          ويبدو لي أن كل الشخصيات الأخرى لرواية الفسكونت المشطور لا معنى لها سوى وظيفتها في الحبكة الروائية. بعضها خرج بصورة جيدة بالفعل - أي اكتسب حياة حقيقية - مثل المربية سيباستيانا، والفسكونت ايولفو أيضاً بالرغم من ظهوره الخاطف. أما عن شخصية الفتاة (الراعية باميلا) فقد كانت  مجرد نموذج للواقعية الأنثوية في مقابل لا إنسانية المشطور.    

وماذا عن مداردو المشطور؟ لقد قلت إنه كان يتمتع بحرية أقل من الآخرين؟ فمسيرته محددة مسبقاً لتتفق مع الحبكة الروائية. ولكن بالرغم من كونه محدوداً هكذا إلا إنه نجح في أن يظهر غموضاً عميقاً يتوافق مع شئ ما لم يكن قد  اتضح بعد في ذهن المؤلف. كان هدفي المؤكد هو محاربة كل انقسامات الإنسان، والبحث عن الإنسان الكامل. ولكن الواقع أن مداردو الكامل الذي ظهر في البداية، بعدم حسمه، لم تكن له شخصية أو شكل، أما مداردو الذي أعيد اكتماله في النهاية فلم نعرف عنه شيئاّ؛ ذلك أن الذي عاش في الرواية هو فقط مداردو عندما كان منقسماً على ذاته. والنصفان، هاتان الصورتان المتضادتان لما هو غير إنساني، صارا أكثر إنسانية فلقد كانا يحركان علاقة متضادة، النصف الشرير التعس يثير الشفقة، والنصف الطيب الأكثر تألماً يثير السخرية، وكنت أجعل كل منهما يتغنى بمديح الانقسام وكأنه أفضل طريقة للوجود،  ويصب اللعنات  على "الكمال البليد"، وذلك من خلال وجهتي النظر المتضادتين.  أيكون السبب هو أن الرواية ولدت في عصر من الإنقسامات فأصبحت تمثل على الرغم منها الضمير الممزق؟ أو بالأحرى لأن التكامل الإنساني الحقيقي لا يكون مجرد سراب لكمال أو كونية غير محددان  أو متاحان، وإنما يكون في البحث المتعمق المدقق فيما نحن عليه طبيعياً وتاريخياً  و في ذلك الاختيار الإرادي الشخصي، أو لبناء ذات أو تخصص، إو  مجرد اختيار أسلوب أو مجموعة من الدلالات الشخصية الداخلية والتنازلات الفاعلة، التي يجب أن نستكملها حتى النهاية؟! كانت الرواية تدعوني من جديد بقوة دفعها الداخلية التلقائية لما كان وما سيظل دائماً موضوعي الروائي؛ موضوع شخص يفرض على نفسه بكامل إرادته قاعدة صعبة ويتتبعها بالرغم من كل العواقب ، لأنه دون هذه القاعدة لن يحقق ذاته لا من أجل  نفسه أو الآخرين.
ترجمة: د. أماني فوزي حبشي
مراجعة: د. محب سعد 

Tuesday 8 August 2017

اذهب حيث يقودك قلبك - سوزانا تامارو - التقديم

تقديم

أثناء تجولها وحيدة في منزلها، ومع هبوب الرياح الباردة في الخارج تعلن عن بداية الخريف والذي بدأ تدريجيًا يطفىء ألوان الحديقة الزاهية، تقرر سيدة مسنة، نظرًا لاصابتها بمرض خطير، أن تكتب خطابًا طويلاً إلى حفيدتها التي تعيش في أمريكا للدراسة، خطاب تكتبه كيوميات، ولكنه يحتوي في مضمونه ليس فقط على سيرتها الذاتية، ولكن عن خلاصة خبرتها ورؤيتها للحياة.
إنها محاولة لقيل ما لم يقال، محاولة لتفسير الغموض والتوتر في العلاقة، خطاب حب تحاول من خلاله إعادة أواصر علاقة انهارت وتسبب في تدهورها صراع الاجيال وصعوبة التفاهم والتقارب بين عقلية في الثمانين واخرى بدأت لتوها سن المراهقة.
وهكذا بالتمرد على قانون الطبقة البرجوازية الثابت، والذي يفرض كثير من الحواجز في العلاقات، ويفرض على الاشخاص اخفاء الكثير من الحقائق وعدم مواجهة المشاعر، تأخذ الجدة الورقة والقلم لتقوم بأول عمل شجاع في حياتها، بأن تحب وتفتح قلبها...
"إذا كنت قد فهمت حينئذ أن أول صفات الحب هي القوة" تعترف في لحظة ما "لكانت الأحداث فد صارت بشكل  مختلف"
تحكي الجدة عن طفولتها والتربية القاسية التي عانت فيها من قمع المشاعر، سواء في منزلها أو في مدرسة الراهبات التي التحقت بها. تحكي عن طفولة اتسمت بالتحفظات والاهتمام بالمظاهر، والتي قادتها فيما بعد للزواج من رجل ممل وعادي، وكيف ادى ذلك فيما بعد إلى "علاقة صراع" بين ابنتها الوحيدة، ثم الموت المأسوي لتلك الابنة، الموت الذي تشعر أنها مسئولة عنه – وهي لا تخفي أي شيئ، حتى إن بدت في ذلك كله قاسية وعديمة الرحمة، مع نفسها قبل كل شيء.
ولكن ليس غرضها من هذا كله هو أن تفضح نفسها، ولا حتى أن تريح ضميرها؛ ولكنها بالتحدث عن صدق المشاعر وباضفائها الاسماء الحقيقية للأشياء، دون تزييف، أو تغطيتها بأخلاقيات مفتعلة، تريد الجدة، والتي عاشت أحداث قرن من التاريخ وشهدت تغييرات جذرية في العادات وانقلاب في القيم، تريد فقط أن تُذّكر حفيدتها- بكل الحب- أنه لا يوجد عدو أسوأ من أنفسنا، وما نخفيه في قلوبنا، وبأن الرحلة الوحيدة التي تستحق أن تقوم بها هي تلك التي تهدف للوصول إلى عمق ذواتنا، إلى البحث عن الصوت الأصلي الموجود داخل كل منا، والذي يحميه ويحفظه بداخله.  
يتميز هذا الخطاب الطويل بالقدرة على تأريخ المشاعر بعذوبة، فتصف شعورها بالتقدم في العمر بالعبارة التالية: إن فكرة القدر تأتي مع التقدم في السن، عندما يكون المرء شابًا لا يفكر في القدر، فكل شيء يحدث يراه ثمرًا لإرادته الخاصة.. إن اكتشاف "القدر" يحدث في سن الأربعين، عندئذ تبدئين في إدراك أن الاشياء لا تتوقف عليك أنت فقط... وحتى ترى القدر بحقيقته الكاملة يجب أن تمر بضعة أعوام أخرى. وفي سن السبعين، عندما ترين شيئًا لم تريه من قبل: إن الطريق الذي اجتزته لم يكن طريقًا مستقيمًا ولكنه مليء بالمفترقات، في كل خطوة كان هناك سهم يشير إلى اتجاه مختلف، ومن هنا يبدًا طريق ومن هناك طريق... ربما ابتلعتك إحدى تلك الطرق المنحرفة دون أن تدركي، ولم ترى الأخرى وتلك التي اهملتها لم تعرفي إلى أين كان يمكن أن تقودك، إذا كان ذلك المكان سيكون أفضل أم أسوأ، وبالرغم من أنك لا تعرفين هذا إلا أنك مع ذلك تندمين. فلقد كان يمكنك عمل شيء ولم تفعليه، لقد عدت إلى الوراء بدلاً من التقدم إلى الأمام.
الحوار المفتقد بين الأجيال.. المشاعر التي تراود المرء في مراحل حياته المختلفة وكيف يمكن التعرف إليها... المحاولة الصادقة للبحث عن ذلك العمق الذي يمكن أن يقود حياة كل منا... أحداث الحياة المختلفة التي تعصف بنا ونحن نحاول أن نتحسس طريقنا... محاولة كل منا العثور على طريقه في الحياة الاجتماعية والتخبط بين البحث عن التفوق العلمي والتمسك بالقيم الإنسانية وبين أن يلهث المرء خلف شهواته ومتعته في النظر كيف يؤثر ذلك فيمن حوله... العلاقات الإنسانية التي أصبحت جافة جدًا وخالية من كل طرق التعبير الإنسانية والتي تؤثر فيما بعد على تكوين الشخصية...
تلك هي الأفكار التي تدعونا الكاتبة سوزانا تامارو للتأمل فيها من خلال الرواية مستخدمة لغة بسيطة ومشاعر عميقة
هل نحن أمام نصًا نسويًا إذن؟
منذ السطور الأولى يتضح لنا هذا الأمر، فالرواية التي تحكي حياة الجدة وما تعرضت له من قمع، مرتبط إلى حد كبير بطبقتها الاجتماعية، ويُنفذ على يد امرأة أخرى، أمها أحيانًا والراهبة في المدرسة، احيان أخرى، إلى معاناة من نوع آخر سواء مع الأب أو الزوج، تجذبنا معها في عالمها الخاص لتنقل إلينا كل تلك المشاعر والرؤية الأنثويه الخاصة بحياتها، ليس فقط بل وأيضًا لمن حولها والأجيال التي تلت جيلها.
عن رؤية مثل هذه يمكن أن نستعير وصف الرائعة لطيفة الزيات لأعمالها الابداعية التي تحمل بصمتها كأمرأة فتقول:
"أما أعمالي الابداعية فتحمل بصمتي كأمرأة، كهذا النتاج التاريخي الاجتماعي لمجتمع معين في فترة من فترات تطوره، وتحمل بصمتي كهذه المرأة الفريدة التي هي أنا. في الأعمال الإبداعية أكتشف رؤيتي الحياة وأبلورها، أخلع أقنعتي، فلا أبقي شيئًا سوى وجه الحقيقة العاري. أبدد أوهامي عن الذات ستارًا بعد ستار، أعلو على توجساتي ومخاوفي، أحس، أجرؤ، أنطق صدقًا، ولو على ذاتي، أكون المرأة الخانقة المقدامة، الضعيفة القوية، الهشة الصلبة، المتمزقة بين العقل والوجدان، التي هي أنا، كتاباتي الابداعية تعرفني وتعرفني" (من شهادة مبدعة، أدب ونقد، نوفمبر 1996)


ولدت سوزانا تامارو في تريستى عام 1957. درست في المركز التجريبي للسينما في روما. ألفت العديد من الروايات منها رأس بين السحب، واذهب حيث يقودك قلبك الذي نال نجاجًا عالميًا، وفي عام 2003 قامت بأول تجربة لها في الاخراج فيلم "في حبي"، عن رواية "لا وجود للجحيم". من رواياتها الأخرى: عزيزتي ماتيلدا، اجبني، ورواية الاطفال: القلب السمين، وهي روايات ترجمت للعديد من اللغات.


أماني فوزي حبشي

Sunday 6 August 2017

المترجم في ميدان المعركة - رواية فارس بلا وجود - إيتالو كالفينو

وكان المثير لي كمترجمة في الرواية "فارس بلا وجود"، هو وجود صورة للمترجم في الحروب في ذلك الوقت، ذلك الذي نظرًا لأنه يعرف كيف تقال الأشياء بلغتين مختلفتين، يتعرض للمخاطر، وللقتل أحيانًا كثيرة،  وهي صورة  تمثل اليوم – إلى حد كبير-  صورة المترجمين في مناطق الصراع والحروب الحالية، في العراق وافغانستان، صورة أصبح لها أهميتها في الوقت الحالي حتى أفرد لها دارسو الترجمة[1] والأدباء[2]  صفحات، بل ونالت اهتمامًا أيضًا من أهل هوليوود[3]  يقول كالفينو عن المترجم في ميدان المعركة:
وهنا كانت درجة السباب وقوته حاسمة، لأنه حسب نوع الإهانة، مميتة كانت أو دموية، أو غير محتملة، متوسطة أو خفيفة، كان الأمر يتطلب ردود فعل مختلفة، وأيضًا يتبعها أحقاد لا يمكن إصلاحها، وتتوارثها الأجيال التالية. لذلك كان غاية في الأهمية  أن يفهم كل طرف ما يقوله الطرف الآخر، وهو الأمر الذي لم يكن سهلاً بين المغاربة والمسيحيين، وبوجود لغات مغربية ومسيحية مختلفة فيما بينها، وإذا لحقك سباب لا يمكنك فك شفرته، ماذا يمكنك أن تفعل؟ كان عليك إذن الاحتفاظ به، وربما تظل ملطخًا به طوال حياتك. ولذلك، ففي تلك المرحلة من القتال كان يتدخل المترجمون. كانت فرقة سريعة ترتدي درعًا خفيفة وتمتطي خيولاً خاصة صغيرة الحجم، وكانت تدور في الجوار حول المحاربين، كانوا يلتقطون على الفور السباب ويترجمونه إلى لغة المستمع.
وبالنسبة إلى أولئك المترجمين كان هناك اتفاق ضمني بين الطرفين على عدم المساس بهم، بالإضافة إلى أنهم كانوا يسيرون بسرعة شديدة، وفي تلك الفوضى لم يكن من السهل قتل محارب ثقيل يمتطي جوادًا منتفخًا يسير بصعوبة لما وضعوه فوقه من دروع كثيرة، فلنتخيل إذن وضع هؤلاء الذين يقفزون بحركاتهم السريعة. ولكن كما هو معروف فالحرب هي الحرب، وكل فترة تترك ضحاياها. أما هم، ولأنهم يعرفون كيف تٌقال "يا ابن العاهرة" بلغتين، كان لا بد أن يكون لهم نصيبهم في المخاطرة.

أماني فوزي حبشي 




[1] ظهر أخيرًا باللغة الإنجليزية العديد من الكتب االتي تتناول المترجم في خضم الصراع ومنها كتاب Baker Mona, Translation and Conflict, Rougledge, 2006
[2] منها رواية المترجم للراوية ليلى أبو العلا Aboulela, Leila (1999), The Translator, Edinburgh: Polygon
[3] فيلم The Interpreter    عرض عام 2004 و قامت ببطولته نيكول كيدمان وشون بين، ويظهر في الفيلم كيفية اقحام مترجمي الأمم المتحدة أحيانًا في الصراع السياسي.  


Friday 4 August 2017

مقدمة لم تُنشر لترجمة رواية بندول فوكو - أومبرتو إيكو

تقديم

إن تقديم ترجمة لرواية بندول فوكو لأومبرتو إيكو عمل جد عسير، فالكتاب ليس مجرد رواية بوليسية فحسب، فنحن أمام عدة كتب في كتاب، عدة كتب تستعرض معارف متنوعة من ثقافات مختلفة. فهو ينطلق من أوروبا العصور الوسطى لينتقل بنا إلى البرازيل حيث الديانات الأفريقية ثم إلى الشرق الأوسط حيث الحروب الصليبية وجماعة الحشاشين. 
تدور أحداث الرواية في إحدى دور النشر، خلال مدة تصل إلى عشرين عامًا، فيها يتناول المؤلف ليس فقط  الاحداث الشخصية والمعرفية للمحررين (أبطال الرواية) فحسب، ولكنه يتعرَّض أيضًا للتغيرات السياسية والثقافية التى حدثت في إيطاليا فى اللحظة التاريخية التي تدور فيها الرواية، مع عودة من حين لآخر لاستعراض جزء من التاريخ الإيطالي في فترة أفول الفاشية. تستعرض الرواية في اطار بوليسي رغبة ثلاثة من المحررين في تأليف خطة تأسيس العالم، خطة تبرر أحداث التاريخ، وتبرر وجود البشر على سطح الأرض، وتبرر أيضًا وجودهم. تقودهم الخطة لمواجهات سواء على المستوى الخارجي أو الداخلي، مواجهات مع جماعات منحرفة تبحث لنفسها عن غرض، ومواجهة مع النفس لفحص أسباب تلك الرغبة في ابتداع الخطة. تحتوي الرواية على عديد من الاسماء التاريخية والحركات الدينية والسياسية، والتي يتضح وجود تفسير لها في سياق الرواية، ولذلك فضلت أن أترك الرواية بلا هوامش لكي لا يفقد القاريء متعة البحث والتي تميز قراءة عمل مركب مثل هذا يحتوي على معلومات لا نهاية لها عن العوالم الغامضة والسفلية، وعن الافكار التي مرت على الانسان في محاولاته المستمرة لاكتشاف بداية كل شيء بطرقٍ ووسائل مختلفة، أحياناً ما تكون منحرفة.

الرواي هو أحد المحررين الثلاثة، ذلك المتخصص في تاريخ فرسان المعبد،  والذي يحكي أحداث الرواية في فترة يومين فقط، فيهما يستعيد العشرين سنة الماضية، يتقاطع مع تلك الاحداث ما كتبه بيلبو- زميله المحرر الآخر- من ملفاتٍ يسجل فيها أحداث حقيقية مرت في طفولته، أو أحداثًا تخيلية خطرت بباله بناء على الخطة. تزودنا الرواية بتاريخ حركة فرسان المعبد، والتي كانت  قد بدأت في الأراضي المقدسة بنية الدفاع عن الحجاج في تلك الفترة، والتي نظرًا لأنها أصبحت فيما بعد من أقوى وأغنى الحركات الدينية، وبالتالي كانت تشكل تهديدًا على الملكية، عمل الملك فيليب الرابع على محاكمتهم، واتهامهم بالهرطقة والقائهم في المحارق. لم يستطع من قرأ تاريخهم الاقتناع بسهولة اعترافهم واستسلامهم للموت، فنسجت حولهم الكثير من الاساطير، والتي تعلقت بمؤامرة كونية خططوا لها، وكنز خبأوه، وبالطبع الكأس المقدس ذا القوى الخارقة الذي بالتأكيد كانوا قد حصلوا عليه وخبأوه.    
وللرواية أهميتها الخاصة فى اللحظة الحاضرة أيضًا، فبالرغم من أنها لم تحظ بالنجاح نفسه الذي حظيت به "اسم الوردة" إلا أنها عادت مرة أخرى للبروز على السطح في أعقاب نجاح رواية دان براون "شفرة دافينشي" والتي بدا مؤلفها متأثرًا بكثير من الأفكار التي تناولها إيكو عام 1988 في بندول فوكو. الشيء الطريف أنه عندما سُئل إيكو عن رأيه في شفرة دافينشي قال: لقد اضطررت لقرائته لأن الكثيرين سألوني عنه. إليهم أجيب بأن دان براون هو أحد شخصيات روايتي "بندول فوكو" والتي فيها أتناول الشخصيات التي تؤمن بحثالة العبادات السرية. وعندما سألته المحاورة: ولكن يبدو أنك أيضًا تهتم بالقبالاة والسيمياء، وبعض الممارسات التي وصفتها في كتابك. أجابها إيكو: لا، في البندول قدمت تلك الشخصيات بطريقة غرائبية. لذلك أرى أن دان براون أحد تلك الشخصيات التي ابدعتها في الرواية[1].

يتناول إيكو في الرواية فترة ظهور الحاسوب كأداة جديدة للكتابة، والتي احتلت مكان الورقة والقلم لدى كثير من المبدعين، ودوره في التحرير، وسهولة التعامل معه، من خلال شخصية بيلبو، الذي أطلق اسم أبو العافية على حاسوبه، وكان يعتمد عليه في تخزين أسراره وأفكاره، بل وفي اختلاق أجزاء من الخطة.

أثناء الترجمة، كما هي العادة، قابلتني العديد من الصعوبات، أولها اعتماد المؤلف على كثير من الإحالات الأدبية، والتي لابد للقارىء أن يكون على دراية بها ليفهم ما يرمي إليه المؤلف. عادة ما تفقد تلك الإحالات (إذا كانت تعتمد على  استخدامها الحرفي باللغة الإيطالية)  أثناء عملية النقل إلى لغة أخرى، أو أن يحاول المترجم، البحث عن السياق المقابل في لغته التي تحمل معنى مشابه، قريب من المعنى الذي يرغب المؤلف الوصول إليه في اللغة الأصلية، وقد حاولت ذلك في العديد من المقاطع بالفعل أو أن أشير بطريقة ما إلى ما يقصده المؤلف في متن الترجمة. إلا أنه لابد من الاعتراف بصعوبة الاحتفاظ بكل الإحالات الأدبية الحرفية عند النقل إلى لغة أخرى. وقد حاور الكثيرون إيكو بهذا الشأن، بل واتهموه بأنه لا يهتم كثيرًا بترجمة كتبه إلى لغات أخرى لما تحويه من كثير من تلك الإحالات، إلا أنه كان يجيب بأن الترجمة، والتي يهتم بها هو شخصيًا، وكتب كثير من الدراسات عنها، هي عملية تفاوض " من باب انطوائها على التضحية بشيء ما، للحصول على شيء آخر وسط الفوارق المتفاوتة بين الأنظمة اللغوية"[2]
 تعتمد الرواية في إطارها وأفكارها على القبالاة، وهى مجموعة التفسيرات والتاويلات الباطنية والصوفية عند اليهود. والاسم مشتق من كلمة عبرية تفيد معنى التواتر او القبول او التقبل او ماتلقاه المرء عن السلف اى التقاليد والتراث وكان يقصد بالكلمة اصلا تراث اليهود الشفوى المتناقل فيما يعرف باسم الشريعة الشفوية وقد اطلق العارفون باسرار القبالاة على انفسهم لقب العارفون بالفيض الربانى، وكان القباليون يرون ان معرفة أسرار الكون توجد فى اسفار موسى الخمسة وهم يرفضون تفسير الفلاسفة المجازى او التفسير الحرفى فقد كانوا ينطلقون من مفهوم غنوصى باطنى يفضى الى معرفة اسرار الكون و أسرار نصوص العهد القديم وحسب رايهم ان التوراة هى خطة الإله للخلق كله وينبغى دراسة كل كلمة فيها لأنها تمثل رمزا وكل علامة او نقطة فيها تحوى سردا داخليا. وسنجد كيف أن التجليات النورانية العشرة للقبالاة تؤطر أحداث  الرواية، والتي يهتم المؤلف بشرح معنى كل منها في بداية أو نهاية كل جزء من أجزاء الرواية العشر، وكيف أن العبث ب"قدسية" الكلمة، والتي تعتمد عليها القبالاة، في رأي أحد أبطال الرواية، وترتيب الأحرف يمكن أن يؤدي إلى كوارث ويقضي على حياة من يعبث بها.  وقد استعنت لترجمة هذه المصطلحات بموسوعة الاستاذ الدكتور عبد الوهاب المسيري: اليهود واليهودية والصهيونية، والتي كانت مرجعًا أساسيًا في ترجمة كل ما تعلق بهذا الموضوع.
تنقلنا الرواية أيضًا للعالم السري لدور النشر، عمل المحررين، وطرق النشر والتوزيع، عالم المؤلفين الجدد وطرق التعامل معهم. العالم الخلفي للنشر، عالم خداع الذات، وخداع من لا موهبة له ويرغب في النشر. ويتضح من الرواية وجود عالم خاص خفي ربما لا يعرف عنه أحد الكثير. ذلك العالم الذي تخلقه دور النشر،  حيث تخترع دور النشر لهذا الغرض الموسوعات، بل والجوائز الأدبية لخداع من يرغبون في النشر وهم لا يملكون أية موهبة.
يبقى التنويه بأن المؤلف بدأ كل فصل من فصول الرواية باستشهاد من كتب متنوعة بلغات متنوعة،  والتي كان لابد لترجمة اللاتينية والاسبانية والبرتغالية منها الاستعانة ببعض الاصدقاء، والذين أود أن أشكرهم من خلال تمهيدي هذا: لويجي ماريا موزاتي، ماريانتونيتا نانيا، جينارو جيرفاتزيو.



Thursday 3 August 2017

مخرج عبقرى أم طفل يرفض الدخول في عالم الكبار؟ ستيفن سبيلبرج



ظاهرة استرعت انتباه الكثيرين …. كتب عنه الكثيرون في جميع أنحاء العالم … يقولون عنه: عينة لموضة هوليوودية جديدة، موضة الإنتاج السوبر بواسطة التكنولوجيا عالية المستوى"

ولكن هل هو كذلك بالفعل، الكثيرون يحاولون فهم هذه الظاهرة الهوليوودية، وهناك من يرى أن ستيفن سببيلبرج ليس سوى طفل يحلم ويؤمن "أن الحلم يحررنا من يأسنا"، طفل يستمتع بشقاوة الأطفال ويظهرها في أصعب اللقطات وأحرج اللحظات (فيلم المبارزة 1972)، طفل عنيد استحواذي يرفض الشعور بالنضج، يبحث عن طفولته، عن لحظة في الوجود لا يمكن استعادتها في الواقع (فيلم اكسبريس شوجرلاند 1974) .

ليس هذا فقط فهو أيضاً يؤمن بتلك "النعمة" التي عبر عنها مخرجه المحبوب تروفو، تلك النعمة التي أحياناً ما تتحكم في مصير الأطفال (الفك المفترس 1975)، إنه ذلك الطفل الذي يؤمن بوجود لقاءات مع الكائنات الفضائية، بل يؤمن أن تلك الكائنات ستفضل مقابلة الأطفال (لقاءات قريبة من النوع الثالث). إنه طفل تبهره الطائرات ويحلم بالطيران والتحليق في الأفق، ليس هذا فقط بل النظر من أعلى لرؤية الفوضى كشيء ممتع مثير للضحك (فيلم 1941 إنتاج 1979).

بل هو يستمتع بالرسوم المتحركة، ويستمتع بتحريك الشخصيات الحقيقية والأحداث كما يحدث عادة في مغامرات الكارتون (غزاة الكنز المفقود 1980).

ولكن الطفل يتقدم في الإخراج وينجح وتصبح له الحرية أن "يلعب" كما يشاء فهو نجم الشباك، فأنطلق بخياله وحاول أن يحقق الحدوتة التي طالما حلم بها، أن يكون الطفل هو بطل هذا الحلم، مع كائن فضائي رائع ورقيق، يقف بجوار أصدقاءه الأطفال عندما يهاجمهم الكبار، هذا الطفل يؤمن بأن الفوضى لا تأتي من الصغار بل أن دخول الكبار إلي عالم الأطفال هو الذي يسبب الفوضى (فيلم ET  1982).  إنه ذلك الرجل  الذي يؤمن بقدرة الحلم (أركل العلبة 1983). بل هو الذي أحياناً ما يخرج أفلاماً لا يستمتع بها سوى طفل في السابعة من عمره (انديانا جونز والمعبد الملعون 1984).

ولكن يفاجئ سبيلبرج الطفل الجميع سنة 1986 عندما يخرج فيلماً غير متوقعاً (اللون القرمزي)، فيلم أسود تماماً، مؤلماً، إلا أنه حتى في هذا الفيلم قد قدم ET  الأسود الخاص به، مميزاً إياه بتلميحات طفولية، ولكن يبدو أن الطفل يبدأ إدراك معنى فقدان البراءة، ومعنى الخوف واليأس (إمبراطورية الشمس 1987) ولكنه لا يفقد الولع للطيران، رمز الحرية ، بل يؤمن أنه لكي تحصل على حريتك يجب أن تعطي للآخرين حريتهم، ولكي تربح جمهوراً يجب أن تتركه حراً لكي يتخيل، لأن يحلم ويختار انفعالاته الخاصة وخياله الخاص (دائماً 1988)، بل هو الابن المهمل الذي يحتاج لوجود أباه خلفه ليخبره أن الإيمان هو السبيل الوحيد للنجاة من الموت (انديانا جونز والحرب الصليبية الأخيرة 1989).

وأخيراً يحقق الطفل حلمه القديم للتحليق في السماء مع جنيته الصغيرة ليعود من حيث أتى، من جزيرة بلا وجود،  حيث يستطيع أن يعود طفلاً إلى الأبد (كابتن هوك 1992)، طفلاً يخشى الكبار وعالمهم الذي يمكن أن يوقع به في كوارث لا يمكنه فهمها (حديقة الدايناصورات 1993).
ولكن نظراً لأنه طفل يعيش في عالم، ليس فقط واقعياً ولكنه أيضاً قاسياً، فهو يمكنه أيضاً أن يسقط فريسة للحقيقة مثله مثل أي شخص آخر، ففي الحياة الحقيقية لا يوجد فارق بين الكبار والصغار؛ جميعهم يمكن أن يصبحوا متوحشين، وجميعهم يمكن أن يسقطوا ضحايا (قائمة شندلر 1994).

هذا ما يختم به المؤلف الإيطالي والناقد وأستاذ الأدب الأنجلو أمريكاني فرانكو لابوللا كتابه "ستيفن سبيلبرج، ترجمته أماني فوزي حبشي وقدمه الأستاذ الدكتور يحيى عزمي وأصدرته وحدة الإصدارات في أكاديمية الفنون