Thursday 4 May 2017

البارون ساكن الأشجار - إيتالو كالفينو

ولكنني سرعان ما اضطرت أن أقطع رحلتي، وأن أعود إلى أومبروزا بعد استدعائي لأمر عاجل مؤسف. لقد تطورت أزمة التنفس التي تصيب أمنا فجأة، وأصبحت أكثر خطورة، ولم تعد المسكينة تقوى على مغادرة الفراش.
عندما عبرت المدخل، ورفعت عينيّ  تجاه فيلتنا، كنت موقنًا أنني سآراه هناك، كان كوزيمو معلقًا على فرع مرتفع من فروع شجرة توت، قريبة جدًا من حافة نافذة حجرة أمنا. ناديته بصوت خافت : كوزيمو! أشار إلى بإشارة كانت تعنى -في آن- أن أمنا قد تحسنت قليلاً، ولكن ما زالت حالتها خطيرة، وأن أصعد ولكن بلا ضوضاء.
 كانت الحجرة تقبع بين النور والظلمة، وكانت أمنا في الفراش تنام على كومة من الوسائد كانت تسند لها كتفيها، وكانت تبدو أكثر حجمًا من المعتاد، لم نرها هكذا من قبل.  وكان يجلس حولها بعض خادمات المنزل. لم تكن باتيستا قد وصلت بعد، لأن الكونت زوجها، والذي كان عليه اصطحابها، كان قد تعطل بسبب موسم جني العنب.
وعلى ضوء الغرفة الخافت كانت تبرز النافذة المفتوحة، والتي كانت تؤطر كوزيمو وهو واقف هناك ثابتًا على فرع الشجرة.
انحنيت لأقبل يد أمنا، عرفتنى على الفور، ووضعت يدها فوق رأسى - آه، ها قد وصلت يا بياچو.
كانت تتحدث بصوت واهن، وذلك عندما لا تضغط الأزمة بشدة على صدرها، ولكنها كانت تتحدث بطلاقة وبوعي تام. ولكن، ما أدهشني هو إحساسي أنها كانت توجه كلامها إلىّ وإلى كوزيمو على قدم المساواة، وكأنه يقف هو أيضًا بجوار فراشها، وكان كوزيمو يجيبها من فوق الشجرة.
- هل أخذت الدواء منذ فترة طويلة يا كوزيمو؟
- لا يا أمي، أخذته منذ فترة وجيزة، انتظري قليلاً قبل أن تأخذيه مرة أخرى، فلن يفيدك أخذه الآن.
وفي لحظة ما قالت له : كوزيمو، أعطني فص برتقالة، واستغربت أنا الموقف، ولكن زادت دهشتي عندما وجدت أن كوزيمو يمد من النافذة داخل الحجرة شيئاً يشبه خطاف الزوارق وبه أمسك بفص برتقالة من الطبق ووضعه في يد أمنا.
ولاحظت أنها كانت تفضل أن تتوجه إليه هو لتنفيذ هذه الأشياء الصغيرة.
- كوزيمو، اعطنى الشال.
وكان هو يبحث بالخطاف بين الأشياء الموضوعة على المقعد، ثم يرفع الشال ويعطيه لها - ها هو يا أمي.
- أشكرك يا بنى.
وكانت تتحدث معه دائمًا وكأنه على بعد خطوة واحدة منها ولكنني لاحظت أنها لم تطلب منه قط أشياء لا يمكن إنجازها من فوق الشجرة. وفي هذه الحالات كانت تطلب منى، أو من السيدات دائمًا.
وفي الليل لم تكن أمنا تستطيع النوم، وكان كوزيمو يمكث على الشجرة ليسهر بجوارها، ومعه لمبة صغيرة معلقة على أحد الفروع حتى تستطيع أن تراه أيضًا في الظلام.
وكان الصباح هو أحلك  لحظات الأزمة، وكان العلاج الوحيد هو محاولة التسرية عنها، وكان كوزيمو يعزف لها على مزمار بعض النغمات، أو يقلد صوت العصافير، أو كان يصطاد الفراشات ويجعلها تطير أمامها في الغرفة، أو كان يفتح أمامها عناقيد أزهار الوستارية.

وفي أحد الأيام المشمسة، كان كوزيمو يقف فوق الشجرة ومعه قدح يكون به فقاقيع من الصابون، وينفخ بها داخل الغرفة تجاه فراش المريضة. وعندما رأت أمنا تلك الألوان للانعكاسات التي تطير وتملأ الغرفة قالت: آه، يا لها من لعبة مسلية! حيث إن ألعابنا ونحن صغار لم تكن تحوز إعجابها، وكانت ترى أن أساليب تسليتنا طفولية جدًا ولا فائدة لها. ولكن الآن، وربما للمرة الأولى، أسعدتها إحدى ألعابنا. وكانت فقاقيع الصابون تصل إلى وجهها، وكانت هي تمزقها بأنفاسها وتضحك. ووصلت إحداها إلى فوق شفتيها ولم تتحرك انحنينا بجوارها لنراها، وسقط  القدح من بين يدي كوزيمو .. فقد ماتت أمنا.

الفصل 20 
ترجمة أماني فوزي حبشي 

Wednesday 3 May 2017

بلا دماء - أليساندرو باريكو



سمعت نينا مرة أخرى ذلك الصوت: إنه الإنذار الأخير يا روكا.
انطلقت طلقات متتابعة وأطاحت بالمنزل من الأمام والخلف كأنها البندول، وبدا أنها لن تنتهي أبدًا، من الأمام ومن الخلف كأنها أضواء فنار على صخر بحر أسود، صبور.
أغمضت نينا عينيها والتصقت بالغطاء، وانكمشت أكثر جاذبةً ركبتيها تجاه صدرها. كانت تحب البقاء في هذا الوضع؛ كانت تشعر ببرودة الأرض أسفل جنبها كأنها تحميها، كانت تشعر بأنها لن تتخلى عنها، وشعرت بجسدها المضموم والملفوف حول نفسه كالقوقعة، وكانت تحب هذا الوضع، كأن جسدها الصَّدَفة والحيوان في آنٍ واحد يحمي نفسه، كان هذا بالنسبة إليها كل شيء، لا شيء يمكنه أن يؤذيها ما دامت في ذلك الوضع. فتحت عينيها من جديد، وقالت لنفسها: لا تتحركي، أنتِ سعيدة هكذا.
رأى مانويل روكا ابنه وهو يتوارى خلف الباب، ثم رفع نفسه بقدر ما يكفي ليلقي نظرة خارج النافذة. ثم فكّر: حسنًا. نظر إلى نافذة أخرى، نهض وصوب بندقيته بسرعة وأطلق النار.
أخذ الرجل ذو الحلّة البيضاء يسب ويلعن وألقى بنفسه أرضًا قائلًا: انظر ماذا يفعل هذا السافل! وأخذ يهز رأسه، انظر ماذا يفعل هذا الفاسق. واستمع إلى صوت طلقتين تأتيان من تجاه المزرعة، ثم سمع صوت مانويل روكا.
- لتذهب إلى الجحيم يا ساليناس.
بصق الرجل ذو الحلة البيضاء على الأرض، وقال له لتذهب أنت إلى الجحيم أيها المجرم، وألقى بنظره على يمناه ورأى إل جوري متجهمًا وهو منبطح خلف كتلة من الخشب. أشار إليه ليطلق النار. استمر إل جوري في تجهمه، كان يمسك المدفع الرشاش الصغير في يمناه، وبيسراه كان يبحث عن سيجارة في جيبه، لم تكن تبدو عليه العجلة. كان قصيرًا ونحيفًا، كان يضع فوق رأسه قبعة قذرة، وفي قدميه زوج أحذية ضخمة كمتسلقي الجبال، نظر إلى ساليناس، عثر على السيجارة، وضعها بين شفتيه، كان الجميع يطلقون عليه اسم إل جوري. نهض وأخذ يطلق النيران.

شعرت نينا بالطلقات وهي تخترق المنزل من فوقها، ثم الصمت، وانطلقت بعد ذلك طلقات أخرى متتابعة لمدة أطول. فتحت عينيها، أخذت تنظر إلى الفتحات الضيقة فوقها، أخذت تنظر إلى الضوء والتراب الذي يتساقط من بينها، ومن حين لآخر كانت ترى ظلًّا يتحرك، كان ذلك ظلّ أبيها.

ترجمة: أماني فوزي حبشي 
نشرتها دار ميريت 2004 

بلا دماء - أليساندرو باريكو

ترجمت هذه الرواية ونشرتها دار ميريت عام 2004

وهذا جزء من المقدمة، ومقطع من الرواية 

عندما صدرت هذه الرواية كان العالم قد بدأ مرحلة جديدة، كان كل ما حولنا يضج بويلات الحرب، وتُغرقه شلالات الدماء. حاولت أن أشرع في الترجمة، ولكن حالت دون ذلك ظروف كثيرة، ومنها بشاعة الجزء الأول من الرواية، ولكن العام مرّ ولم يتغير شيء فلا يزال القتلى يتساقطون في كل مكان، بل أصبح مشهد القتل معتادًا حتى بالنسبة إلى الأطفال الصغار الذين يُصدَمون به كل يوم على شاشات التليفزيون.
لم يعد المرء يستطيع فهم أي شيء مما يحدث حوله، أصبح القتل سهلًا، وكما يقول المؤلف عن بطلته: "وحاولتْ أن تتساءل من أين يأتي ذلك الإيمان العبثي بضرورة تلك الحرب البشعة، واكتشفت أنه ليست لديها إجابات".
أصبح إهدار الحياة سهلًا كأنه إغلاق منزل ما أو نافذة، الجميع يقتلون كأن أهدافهم أشجار أو ألواح خشبية.

الرواية 

حرّك مانويل روكا السلال المليئة بالفاكهة وانحنى ثم رفع غطاءً سريًّا لأحد المخازن ونظر بالداخل، كان مكان أكبر بقليل من ثقب كبير محفور في الأرض، كأنه جحر حيوان.
- استمعي إليّ يا نينا، الآن سيصل بعض الأشخاص ولا أريدهم أن يروكِ، لا بد أن تختبئي هنا في الداخل، من الأفضل أن تختبئي هنا وأن تنتظري حتى يذهبوا بعيدًا، هل فهمتِ ما أقوله؟
- نعم.
- يجب عليكِ فقط البقاء صامتة هنا.
- ...
- مهما حدث لا تخرجي. يجب ألا تتحركي، يجب فقط أن تلزمي الهدوء وأن تنتظري.
- ...
- كل شيء سيكون على ما يرام.
- نعم.
- استمعي إليّ. يمكن أن أضطر إلى الذهاب مع أولئك الأشخاص. لا تخرجي إلا عندما يأتي أخوكِ ليأخذكِ. هل فهمتِ؟ أو حتى تشعري أنه لا وجود لأحد وأن كل شيء قد انتهى.
- نعم.
- يجب أن تنتظري ألا يكون هناك أيّ شخص.
- ...
- لا تخافي يا نينا، لن يحدث لكِ أي شيء. حسنًا؟
- نعم.
- أعطيني قُبلة.
قبّلت الطفلة أباها على جبهته، الذي بدوره ربّت بيده على شعرها.
- كل شيء سيكون على ما يرام يا نينا.
ثم مكث هناك، كأن عليه أن يفعل شيئًا آخر، أو أن يقول شيئًا آخر.
قال: لم يكن هذا ما أردت. تذكري دائمًا أنني لم أكن أريد هذا.
بحثت الطفلة ببراءة بداخل عين أبيها عن شيء يساعدها على أن تفهم، لم ترَ شيئًا. انحنى أبوها وقبّلها.
- هيا اذهبي يا نينا. هيا انزلي هنا.
تركت الابنة نفسها لتسقط في الحفرة. كانت الأرض قاسية وجافة، واستلقت هناك.
- انتظري، خذي هذا.
أعطاها أبوها غطاءً، بسطته على الأرض، ثم عادت لتستلقي.
سمعت أباها يقول شيئًا ثم رأت غطاء المخزن وهو ينخفض.
أغلقت عينيها ثم فتحتهما، ومن بين ألواح الأرضية كانت تدخل لها شرائط من الضوء. سمعت أباها وهو لا يزال يتحدث معها، ثم سمعت صوت السلال وهى تُجَرّ مرة أخرى على الأرض.

ازداد الظلام هناك في الأسفل، سألها والدها عن شيء وأجابت. كانت مستلقية على أحد جانبيها، منكمشة حول نفسها كأنها في الفراش حيث لم يكن لديها شيء آخر لتفعله سوى أن تنام وتحلم. سمعت والدها يقول لها شيئًا آخر برقّة وهو ينحني أرضًا، ثم سمعت صوت طلقة مسدس، وصوت النافذة تتهشم.