Monday 19 February 2018

رحيل المفكر والفيلسوف والروائي الإيطالي أومبرتو إيكو عن عمر يناهز 5000 عام - إعادة نشر في ذكرى وفاته اليوم 19 فبراير

كتبته: أماني فوزي حبشي  

من لا يقرأ، عندما يصبح عمره 70 عامًا سيكون قد عاش حياة واحدة فقط: حياته هو. ولكن من يقرأ سيكون قد عاش 5000 عامًا: سيكون قد عاش عندما قتل قايين هابيل، وعندما تزوج رينزو من لوتشيا، وعندما كان ليبوباردي يبدي اعجابه باللانهائية... فالقراءة هي الأبدية. (إومبرتو إيكو)

عندما قرأت هذه العبارة للمفكر والروائي الكبير أومبرتو إيكو تذكرت التحديات التي كانت قد وضعت أمامي أثناء ترجمتي لروايته "بندول فوكو" والتي أصدرها المركز القومي للترجمة التابع لوزارة الثقافة عام 2011. يعرف المقربون مني أن الرواية استغرقت وقتًأ طويلاً في الترجمة، وكنت قد شرحت أن هذا كان بسبب صعوبة ما جاء فيها من تحديات تمثلت وقتها في المصطلحات واللغة المركبة، وما جاء فيها من أفكار ومعطيات أيضًا.
أتذكر جيدًأ عندما كنت أذكر لأصدقائي الإيطاليين بأنني أعمل على ترجمة رواية بندول فوكو كانوا يضحكون ويتمنون لي حظًا وافرًا، فالرواية ضخمة، بلغ عدد صفحات الترجمة إلى اللغة العربية 710 صفحة، ويقولون لي إننا نستحدم مجلد الرواية كمثبت للأبواب، وللموائد أحيانًا. والجدير بالذكر أنه على الرغم من احتفاء العالم برواية اسم الورد، فإن رواية بندول فوكو، على الرغم مما فيها من إثارة وغموض لم تنل الحظ نفسه، لكثرة ما جاء فيها من معلومات وإحالات وتفاصيل.فقد وجدت نفسي أتوقف تقريبًا عند كل فقرة من الكتاب لأبدأ في قراءة شيء آخر، كتاب آخر، مقال، موسوعة، أو بحث على شبكة الإنترنت، لأستطيع أن أفهم بصورة أفضل ما يرغب أن ينقله بعباراته تلك. بل وقد احتجت أن أذهب لزيارة متحف الفنون والحرف في باريس والتوقف بنفسي أمام البندول وأن أدون ملاحظات حول معمار المتحف من الداخل وطريقة وضع المعروضات لأتمكن من ترجمة بعض أجزاء الرواية.ولكن لم يكن أومبرتو إيكو فقط ذلك الروائي والفيلسوف فقد كان مفكرًا مستنيرًا قادرًا على التوقف أمام اللحظات الحاسمة للأحداث الجارية وتحليلها ونقدها نقدًا عميقًا وطرح خططًا أيضًا لحلول مستقبلية، فأنا أتذكر جيدًا  رده على مقال الغضب والكبرياء لأوريانا فالاتشي والذي كان قد أثار ردود فعل متفاوتة في اوساط المثقفين. أكثر ما لفت نظري هو خوفه من انتشار الأفكار السلبية، جاهزة الإعداد، وتقوية النزعة القومية التي يمكن أن تؤدي إلى التعصب، في أوساط الشباب، وتأثير ذلك في قدرتهم على التحليل والتفكير المتعمق في الظواهر التي تحدث أمامهم، وبالتالي التمكن من التعامل معها بحكمة لتجنب سقوط أبراج أخرى في المستقبل.قال أومبرتو إيكو في مقاله الذي كتبه في الخامس من أكتوبر عام 2001 ردًا على أوريانًا فالاتشي والذي حمل عنوان "الحروب المقدسة بين الإنفعال والعقل": "ولكن الشيء الثانوي، والذي يجب أن يثير قلق الكثيرون من الساسة، والزعماء الدينيين، والمعلمين، أن هناك بعض العبارات، أو ربما مقالات كاملة، شيقة اكتسبت بطريقة أو بأخرى شرعية معينة، أصبحت موضوع نقاش عام، وأصبحت تشغل ذهن الشباب، وربما تقودهم إلى استنتاجات انفعالية تمليها عليهم المشاعر اللحظية. وهنا أشعر بالقلق الشديد على الشباب بصفة خاصة إذ أن أفكار كبار السن غير قابلة للتغيير."وتابع بعد ذلك في مقاله فحص وتحليل ونقد الأفكار السائدة في محاولة منه للتشجيع على هذا النوع من التحليل والتفكير في المدارس بصفة خاصة، بل وطرح التاريخ القديم وما حدث فيه سواء من سلبيات أم ايجابيات جانبًا في سبيل فحص أعمق لمشكلات الحاضر وذلك للتمكن من التعامل مع معطياتها بالعقل وبعيدًا عن الإنفعالات والنزعات القومية. ألف أومبرتو إيكو سبع روايات، اشهرها رواية اسم الوردة 1980والتي تحولت إلى فيلم سينمائي وقام ببطولته الممثل الشهير شون كونري، تلتها رواية بندول فوكو 1988، السابق ذكرها، ثم رواية جزيرة اليوم السابق 1994، وباودولينو 2000، وشعلة الملكة لوانا الغامضة 2004، والتي كان قد أعلنها آخر رواياته. إلا أنه تلاها بعد ذلك بروايتين أخيرتين هما مقبرة براج سنة 2010، وعدد صفر سنة 2015.والجدير بالذكر أنه على الرغم من أن موضوعات رواياته متنوعة فإن بطلها في كل الأحوال هو الكتاب أو المكتوب، فنحن في اسم الوردة أمام جرائم تحدث في أحد أديرة العصور الوسطى وبطل الرواية تقريبًا المكتبة والمخطوطات، والحال نفسه في بندول فوكو، فنحن أمام مجموعة من الناشرين، والأحداث تدور في دار نشر حول بطل مركزي هووسيلة الكتابة الحديثة (الحاسوب)، وهي أوراق الشاب الباحث عن جزيرته في جزيرة اليوم السابق، والرسالة الأسطورية للراهب في باودولينو، ويامبو بائع الكتب القديمة في شعلة لوانا الغامضة، وبروتوكولات حكماء صهيون بطلًا لمقبرة براغ، لينتهي بنا الحال في دهاليز الصحافة واستغلال السياسة للكلمة مع عدد صفر.عام 1971 أصبح إيكو أول أستاذ للسيميوطيقا في جامعة بولونيا. وعن عمله هذا يقول إيكو في حوار مع جريدة الجارديان: إن العالم ليس إلا شبكة من العلامات تصرخ مطالبة بتأويلها. ويشرح قائلاً: لابد لنا ألا نتجاهل التجليات الهامشية للثقافة، ففي القرن التاسع عشر كان تيليمان يُعد مؤلفًا موسيقيًا أعظم من باخ بكثير، وفي خلال 200 عام ربما يتم اعتبار دعاية كوكا كولا أهم من بيكاسو. ولذلك ففي محاضراته يتم تحليل روايات جيمس بوند، ومجلات الكوميكس، وصور مارلين مونرو بالحماس نفسه.في العام الماضي أثارت إجابة أومبرتو إيكو في إحدى الندوات الصحفية والتي كان فيها يتحدث عن ضرورة أن تتخذ الصحافة موقفًا من وسائل الاتصال الاجتماعي بأن تخصص على الأقل صفحتين يوميًا لفحص ما يُنشر على صفحات الإنترنت وذلك لمساعدة القراء غير المتخصصين في معرفة الصالح والطالح. وقد طرح عدة اقتراحات على المعلمين في المدارس منها أن يمنح للطلاب أبحاثًا للمقارنة بين أكثر من موقع، حيث يرى أن أي متخصص في مجاله يمكنه بكل سهولة تمييز المعلومات المقدمة، ولذلك علينا مساعدة غير المتخصصين في القيام بعملية "فلترة". وفي نقده لتويتر قال إمبرتو إيكو إن المشكلة أصبحت في أن ما كان يقوله المرء بعد تناول بعض كاسات من النبيذ في إحدى البارات بين عدد محدود من الأصدقاء أصبح يقوله على وسائل الإتصال الاجتماعي مما يتسبب أحيانًا في مشكلات عديدة، بالإضافة إلي أنه يصل إلى عدد أكبر من المستمعين، بل وأن الإنترنت قد منح "الحمقى" أيضًا مساحة يعرضون فيها أرائهم على قدم المساواة مع الحاصلين على جوائز النوبل.وهذا التصريح الأخير تسبب في عاصفة من الهجوم على أومبرتو إيكو حيث أنه في نظر الكثيرين يُطالب بالرقابة على مساحات الحرية الممنوحة للتعبير عن الرأي، ولأنه أيضًا يريد أن تقتصر وسائل التعبير على النخبة والمثقفين. سواء اختلفت معه أو اتفقت، سواء قرأت واستمتعت أم شعرت بالإرهاق الشديد لدسامة ما تقرأه وتجتهد في فهمه،  يبقى واقع أن أومبرتو إيكو في كتابته الروائية يصطحب قارئه معه في مغامرة ثقافية ممتعة من المعرفة والدهشة والاكتشافات التاريخية، والحس الفكاهي في لحظات كثيرة، والذي يضفي على كل ما يكتبه نكهة خاصة. لكنك في نهاية الأمر تشعر أنك أمام مؤلف جاد يحترم قارئه ويحاول أن يبحث ويجتهد هو نفسه، كأستاذ مخلص، ليحصل قارئه على أكبر قدر من الاستفادة مع المتعة. 


مقالة نُشرت في جريدة القاهرة، 20 فبراير 2016