Wednesday, 19 July 2017

أنا ونتاليا‮ ‬ وأصوات المساء




وراء كل ترجمة قمت بها قصة،‮ ‬أحيانًا تكون بسيطة وأحيانًا تكون مركبة‮.‬

لترجمة رواية‮ «‬‬أصوات المساء‮» ‬الصادرة عن دار الكرمة قصة تتلخص في بعض الوقفات الشخصية والمهنية،‮ ‬قد تبدو‮ ‬غير مهمة،‮ ‬ولكنها في الحقيقة تكشف بعدًا آخر لعمل المترجم،‮ ‬ذلك الذي‮ ‬يميزه عن‮ «جوجل‮»‬ ‬وأجهزة الترجمة،‮ ‬كما أنها قد تتعارض مع الصورة الذهنية التي كونها البعض عن المترجمين بصفة عامة‮.‬



‮ ‬المؤلف والمترجم وسياسة دار النشر

عندما عُرضت عليَّ‮ ‬ترجمة هذا الكتاب،‮ ‬اتصلت بي‮ ‬المحررة في دار النشر،‮ ‬لتطلب مني أن أترجم جزءًا من الرواية،‮ ‬فوافقت‮. ‬أرسلت ما ترجمته،‮ ‬ثم أعيد إليَّ‮ ‬بعد مراجعته‮ -‬ببعض الملحوظات‮. ‬كان أول رد فعل لي هو الضيق،‮ ‬ثم،‮ ‬مع وضع قبعة المهنية‮ ‬،‮ ‬بدأت  الرد علي كل التساؤلات التي جاءتني‮.‬

وكان أول ما لفت نظري في سياسة الدار هو الرغبة في الاحتفاظ علي أسلوب المؤلفة،‮ ‬علي الرغم من أن ذلك ربما لا يكون مستساغًا لدي القارئ العربي‮. ‬وأدركت عندئذ أن نظرية‮ «موت المؤلف‮»‬ ‬لن تصلح مع هذا النص،‮ ‬وأن عليَّ‮ ‬أن أحتفظ بأسلوب المؤلفة،حتي ولو بدا‮ ‬غريبًا بعض الشيء علي القارئ العربي‮. ‬في خبراتي السابقة في الترجمة،‮ ‬كان العكس هو الذي يُطلب مني،‮ ‬ولكن لكل من أساليب الترجمة نظرياته التي لها مؤيدوها،‮ ‬وبالتالي،‮ ‬لا خطأ هنا‮ (‬كما كنا نتعلم في الماضي‮)  ‬ولكن العبرة هي أي النظريات سأختار


وقفة نظرية عن دراسات الترجمة

‮ (‬بتبسيط شديد‮)‬

بالطبع يسعي المترجم والناشر والمحرر إلي الحصول‮ ‬علي منتج نهائي يناسب السوق ويضمن التوزيع‮. ‬وبالطبع تعتقد الأغلبية أنه كلما اقتربت لقارئ‮ (‬العربي في حالتنا هذه‮)‬،‮ ‬يحصل الكتاب المترجَم علي نجاح أكبر وتكون فرص توزيعه أكبر‮. ‬يقول مثلًا‮ «جون درايدن‮»‬‬،‮ ‬مترجم‮ «فيرجيليو‮»‬ ‬إلي الإنجليزية،‮ ‬بأنه جعله يتحدث إنجليزية كان سيتحدثها بالفعل لوكان يعيش في الزمن الحاضر‮. ‬ويحدث أيضًا في الصحافة الأمريكية حاليًّا أن تتحول النصوص،‮ ‬وكأنها كتبت بالفعل بالإنجليزية،‮ ‬وأحيانًا لا يُذكر حتي اسم المترجم الذي نقلها إليها‮).‬
وهنا نجد أنفسنا نتبع المنهج الذي يدعو إليه‮ «يوجين نايدا‮»‬‬،‮ ‬رائد نزعة التوطين في الترجمة،‮ ‬بينما يهاجم هذا النهج‮ «لورنس فينوتي‮»‬ ‬حيث يري أن في التوطين اعتداء علي النص الأجنبي الأصلي وهويته،‮  ‬مما يؤدي إلي فقد الخصائص الثقافية الأساسية للنص المترجم‮.‬

ويري‮ «فينوتي»‬ ‬أن ما يفعله المترجم عادةً،‮ ‬وما يمكنه أن يفعله،‮ ‬هو الكتابة‮. ‬وبالتالي علينا أن ننظر إلي المترجم ككاتب،‮ ‬ليست له خصوصية التأليف التي تتنافس مع الكاتب الأصلي للعمل الأدبي،‮ ‬ولكنه يمتلك فن المواءمة،‮ ‬الذي يساعده فيه التراث المخزون في الأدبيات والمصادر التي تتميز بها اللغة المترجم إليها‮. ‬إن الترجمة تنقل لنا تأويل المترجم نفسه للنص،‮ ‬ولذلك لابد أن يكون هذا المترجم علي دراية كافية باللغة وبالاختلافات الثقافية بين الثقافة المنقول منها وتلك المنقول إليها‮.‬

فكان الاختيار‮: ‬سنتبع إذن منهج‮ «فينوتي‮»‬ ‬مع‮ «أصوات المساء‮»‬.‬

المؤلفة وشخصيات الرواية
في بداية الرواية تقول‮ «نتاليا جينزبورج‮»‬:‬
«‬‬جميع الشخصيات والأماكن في هذه القصة من وحي الخيال‮.‬
بعض الأماكن لا وجود لها علي أي خريطة جغرافية‮.‬
الأشخاص لا وجود لهم،‮ ‬بل ولم يكُن لهم أي وجود في أي بقعة من بقاع العالم‮.‬
يؤسفني جدًّا قول هذا،‮ ‬لأنني أحببتهم بالفعل كأنهم حقيقيون»‮.‬
في البداية قرأت الفقرة وترجمتها وشعرت ربما ببعض المبالغة،‮ ‬فهذا أسلوب جيد من المؤلفة للتشويق‮. ‬ولكني في واقع الأمر وجدت نفسي أنا أيضًا أتعاطف جدًّا مع الشخصيات،‮ ‬إلي حد أنني كنت أحيانًا أفكر في نهايات أخري لقصصها،‮ ‬أو في كلمات أخري ربما تغير من مصيرها‮.‬
تعاطفت كثيرًا مع‮ «إلسا‮»‬‬،‮ ‬ولم أستطع أن أمنع نفسي من التعاطف في الوقت ذاته مع‮ «تومازينو‮»‬. ‬أحببت شخصية‮ «بالوتا‮»‬ ‬صاحب المصنع،‮ ‬وبساطته وحبه لعماله وزوجته،‮ ‬ولم أستطع كراهية‮ «البوريللو‮»‬ ‬أيضًا‮. ‬شعرت مع»جينزبورج‮»‬ ‬أنهم بالفعل حقيقيون،‮ ‬أنهم يمثلون شخصيات كثيرة حولي،‮ ‬تعرفت علي بعضهم بالفعل في مسيرة حياتي،‮ ‬تعرفت علي معاناتهم في أشخاص قريبين مني‮. ‬تعرفت علي مَن يعشن‮ (‬كشخصياتها النسائية‮) ‬علي الهامش،‮ ‬وعلي من يحاولون طوال الوقت دفن أفكارهم والالتزام بما فرضه عليهم المجتمع،‮ ‬بمن يوهم نفسه بأنه يعيش بسعادة بينما هو في داخله حزين،‮ ‬ولا يرغب حتي في أن يعرف هذه الحقيقة‮.‬
استطاعت‮ «جينزبورج‮»‬ ‬نقل كل هذا ببساطة شديدة،‮ ‬لم تتدخل في محاولة لشرح أي شيء،‮ ‬أو تفسيره،‮ ‬بل تركت الشخصيات تعبر عن هذا في تصرفاتها اليومية المعتادة‮. ‬فكما يقول‮ «كالفينو‮»‬: ‬هي تبني الحالات النفسية التي تقدمها من خلال التصرفات،‮ ‬ولا تعلق ولا تحاول التفسير قط بطرق عقلية‮.‬

مع المحرر
وهنا جاءت المرحلة الأخيرة،‮ ‬والتي عادة ما تكون‮ ‬كالتالي في خبرة الترجمة‮: ‬يُرسَل العمل إلي الناشر،‮ ‬أحيانًا يعيده إليك بعد المراجعة لتري إضافات المراجع،‮ ‬وبالتالي يكون علي المترجم المقارنة بين النص الذي أرسله والنص المُرسل إليه،‮ ‬لأن التعديلات تكون علي النص مباشرة،‮ ‬وتكون في‮ ‬غالب الأحيان نهائية بالنسبة إلي المراجع،‮ ‬إلا لو قرر المترجم التدخل مرة أخري بقبولها أو رفضها‮.‬
وأحيانًا،‮ ‬في حالة عدم وجود مراجع،‮ ‬تتم المراجعة اللغوية،‮ ‬التي لا أعرف عنها أنا،‮ ‬كمترجمة،شيئًا‮ (‬إلا عندما أرسل أنا النص لمراجع لغة عربية قبل إرساله إلي دار النشر‮).‬
ويبقي المحرر‮ (‬إذا كان له وجود‮) ‬خفيًّا بالنسبة إليَّ،‮ ‬لا أتعامل معه تقريبًا‮.‬
لكن مع نص‮ «أصوات المساء‮»‬ ‬كان الأمر مختلفًا،‮ ‬وكانت خبرة قد أثْرَتني وأسعدتني في الحقيقة‮. ‬فلأول مرة أناقش ترجمتي بهذا الوضوح مع محررة‮ (‬لا تشعرني بدورها أن رأيها نهائي وعليَّ‮ ‬أن ألتزم به‮)‬،‮ ‬لديها نسخة أخري من النص باللغة التي تجيدها،‮ ‬تقرؤها معي لنتوصل معًا إلي أفضل منتج يصل إلي القارئ،‮ ‬نحاول معًا قراءة النص والوصول إلي ما ترغب المؤلفة بالفعل في قوله‮. ‬من هنا بدأت عملية تبادل الآراء والملفات،‮ ‬والتعديل والتنقيح‮. ‬وفي كل مرة كنت أعيد القراءة كنت أستحسن النص أكثر،‮ ‬وتعلمت أن المحرر الذي يعمل بمهنية ويحب عمله يضيف كثيرًا إلي المترجم وإلي عمله‮.‬
ربما لا يري القارئ من الترجمة سوي القشرة الخارجية،‮ ‬ربما حتي لا يهتم كثيرًا بالمترجم وبما يفعله،‮ ‬وربما يظن أن المسألة تكمن فقط في إجادة لغتين‮. ‬ولكن الحقيقة وهذا ما أثبتته الأبحاث الحديثة في مجال دراسة الترجمة‮ - ‬أن الترجمة هي عملية تحتاج إلي أكثر من ذلك بكثير،‮ ‬فهي تحتاج أيضًا إلي قدرة شخصية علي التفاعل مع النص،‮ ‬والانشغال به‮. ‬فالمترجم لا يتعامل مع نص جامد يرغب في نقله،‮ ‬ولكنه يتعامل مع مشاعر مؤلف وإبداعه‮. ‬وفي نهاية الأمر،‮ ‬وهو الأهم،‮  ‬تكمن جودة المنتج النهائي في تضافر جهود كل فريق العمل مع دار النشر في إنتاج‮ ‬هذا العمل‮.


أماني فوزي حبشي 
لأخبار الأدب 
http://adab.akhbarelyom.com/newdetails.aspx?id=302814

No comments:

Post a Comment